كما ذكره الخِرَقي، ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عَهْدُه؛ بل يُحَدُّ حدَّ القذفِ. قال: "فتخرج المسألة على روايتين"، ثم قال: "وفي معنى هذه الأشياء: ذكرُ الله وكتابهِ ودينه ورسولهِ بما لا ينبغي، فهذه أربعةُ أشياء الحكمُ فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها، ليس ذكْرُها شرطاً في صحة العقد، فان أتَوْا واحدةً منها نَقََضُوا الأمان، سواء كان مشروطاً في العهد أو لم يكن، وكذلك قال في "الخلاف" بعد أنْ ذكر أنَّ المنصوص انتقاضُ العهد بهذه الأفعال والأقوالِ. قال: "وفيه روايةٌ أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بَذْلِ الجِزْية وجَرْيِ أحكامنا عليهم".
ثم ذكر نصَّه على أنَّ الذِّمي إذا قَذَفَ المسلم يُضْرَبُ، قال: "فلم يَجْعَلْه ناقضاً للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضررِ عليه بهتكِ عِرْضه". وتَبِعَ القاضي جماعةٌ من/ أصحابه ومن بعدهم ـ مثل الشريف أبي جعفر وابن عقيل وأَبي الخطاب والْحُلْوَانِي ـ فذكروا أنه لا خِلاَفَ أنهم إذا امتنعوا من أداءِ الجزْيِة أو التزامِ أحكام الملَّةِ انتقض عَهْدُهم، وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها [ضررٌ] على المسلمين وآحادِهم في نفسٍ أو مالٍ، أو فيها غَضَاضةٌ على المسلمين في دينهم، مثل سبَّ الرسولِ ? وما معه روايتين:
إحداهما: ينتقض العهد بذلك.
والأخرى: لا ينتقض عهده، ويقام فيه حدود ذلك.
مع أنهم كلُّهم متفقون على أن المذهبَ انتقاضُ العهد بذلك. ثم أنَّ القاضي و الأكثرين لم يعدُّوا قَذْف المسلم من الأمور المضرة الناقضة، مع أن الرواية المُخَرَّجَةَ إنما خُرَّجَتْ من نصِّه في القَذْفِ. وأما أبو الخطاب ومَن تبعه فنقلوا حُكم تلك الخصال إلى القَذْف كما نقلوا حكم القَذْف إليها، حتى حكوا في انتقاض العهد بالقَذْف روايتين.
ثم إن هؤلاء كلَّهم وسائرَ الأصحابِ ذكروا مسألةَ سبِّ النبيَّ ? في موضعٍ آخر، وذكروا أن سَابَّهُ يُقْتَلُ وإن كان ذمياً، وأن عهده ينتقض، وذكروا نصوص أحمد من غير خلافٍ في المذهب. إلا أن الحُلْوَاني قال: "ويحتمل أن لا يُقْتَلَ من سَب الله ورسوله إذا كان ذِمِّياً". وسلك القاضي أبو الحسين في نواقض العهد طريقةً ثانيةً تُوَافِقُ قولهم هذا فقال: "أما الثمانية التي فيها ضررٌ على المسلمين وآحادِهم في مالٍ أو في نفسٍ فإنها تنقضُ العهد في أصحِّ الروايتين، وأما ما فيه إدخالُ غَضَاضةٍ ونقص على الإسلام ـ وهي ذكرُ اللهِ وكتابهِ ودينهِ ورسولهِ بما لا ينبغي ـ فانه ينقضُ العهدَ" نصَّ عليه، ولم يخرج في هذا روايةً أخرى كما ذكر أولئك في أحد الموضعين، وهذا أقْرَبُ من تلك الطريقة، وعلى الروايةِ التي تقول: "لا ينتقضُ العهدُ بذلك"، فإنما ذلك إذا لم يكن مشروطاً عليهم في العقدِ.
فأما إن كان مشروطاً ففيه وجهان:
أحدهما: يُنتقض، قاله الخِرَقي. قال أبو الحسن الآمدي: "وهو الصحيحُ في كلِّ ما شُرِطَ [عليهم] تَرْكُه"؛ صحَّح قولَ الخِرَقي بانتقاضِ العهدِ إذا خالفوا شيئاً/ مما شرط عليهم.
والثاني: لا ينتقض، قاله القاضي وغيره، صرَّح أبو الحسين بذلك هنا كما ذكره الجماعةُ فيما إذا أظهروا دينَهم وخالفوا هيئتهم من غيرِ إضرارٍ كإظهار الأصواتِ بكتابهم والتَّشَبِه بالمسلمين، مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركُها؛ سواء شُرِطت في العقد أو لم تُشرطْ.
ومعنى اشتراطها في العقد: اشتراطُ تركها بخصوصِها.
وهاتان الطريقتان ضعيفتان، والذي عليه عامةُ المتقدمين من أصحابنا ومَن تبعهم من المتأخرين: إقرارُ نصوصِ أحمد على حالها، وهو قد نصَّ في مسائل سبَّ اللهِ ورسولهِ على انتقاضِ العهدِ في غيرِ موضعٍ، وعلى أنه يُقتل، وكذلك فيمن جسَّس على المسلمين أو زَنى بمسلمةٍ على انتقاض عهده وقَتْله في غير موضعٍ. وكذلك نَقَلَه الخِرَقي فيمن قتل مسلماً، وقَطْعُ الطريق أَوْلَى.
وقد نصَّ أحمدُ على أنَّ قَذْفَ المسلمِ وسِحْرَه لا يكون نقضاً للعهد في غير موضعٍ. وهذا هو الواجبُ؛ لأنَّ تخريجَ إحدى المسألتين إلى الأُخرى وجَعْلَ المسألتين على روايتين ـ مع وجودِ الفَرْق بينهما نصّاً واستدلالاً، أو مع وجودِ معنى يجوزُ أن يكون مستنداً للفَرْقِ ـ غيرُ جائزٍ، وهذا كذلك، وكذلك قد وافَقَنا على انتقاض العهد بسبِّ النبيَّ ? جماعةٌ لم يوافقوا على الانتقاضِ ببعضِ هذِهِ الأمورِ.
¥