ومنهم مَن قال: أن شُرِطَ نقض وجهاً واحداً، وإن لم يشرطْ فوجهان، وحَسِبُوا أنّ مرادَ العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكايةً عنهم: إن لم يجر شرطٌ لم ينتقض العهد، وإن جرى فوجهان، ويلزم من هذا أنْ يكونَ العراقيون قائلين بأنه أن لم يجرِ شرطُ الانتقاضِ بهذه الأشياء لم يُنتقضْ بها قولاً واحداً، وإن صرح بشرط تركها، وهذا غلط عليهم، والذي نصروه في كُتُبِ الخلاف أنَّ سبِّ النبي ? ينقُضُ العهدَ ويوُجِبُ القتلَ، كما ذكرنا عن الشافعي نفسه.
مذهب أبي حنيفة
وأما أبو حنيفة وأصحابُه فقالوا: لا يُنتقض العهدُ بالسبِّ، ولا يُقتل الذِّمي بذلك، لكن يُعَزَّز على إظهار ذلك كما يُعزز على إظهارِ المنكراتِ التي ليس لهم فعلُها من إظهارِ أصواتِهم بكتابهم ونحو ذلك، وحكاه الطحاويُّ عن الثوريِّ، ومن أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمُثَقَّل والجماع في غير القُبُلِ إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله، وكذلك له أن يزيد على الحدِّ المُقَدَّر إذا رأى المصلَحَةَ في ذلك، ويحملون ما جاء عن الرسول ? وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأيُ المصلحة في ذلك، ويُسمونه القَتْلَ سياسةً، وكان حاصله أنَّ له أن يُعزِّزَ بالقتل في الجرائم التي تَغَلَّظَت بالتكرار، وشرع القتلُ في جنسِها، ولهذا أفْتَى أكثرهم بقتل مَنْ أكثر مِن سَبِّ النبيَّ ?/ من أهل الذمة وإن أسْلَم بعد أخْذِه، وقالوا: يُقتل سياسةً، وهذا متوجهٌ على أصولهم.
الأدلة على انتقاض عهد الذمي الساب
والدلالةُ على انتقاض عهد الذميِّ بسبِّ اللهِ أو كتابِه أو دينهِ أو رسولهِ، ووجوبِ قتلهِ وقتلِ المسلم إذا أتى ذلك: الكتابُ، والسنة، وإجماعُ الصحابةِ والتابعين، والاعتبارُ.
الأدلة من القرآن
أما الكتابُ فيُستنبط ذلك منه من مواضع:
الدليل الأول
أحدها: قولُه تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِِيْنَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ? _ إلى قوله _: ?مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? فأمَرَنا بقتالهم إلا أن يُعْطُوا الجزيةَ وهم صاغرون، فلا يجوزُ الإمساكُ عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حالَ إعطائهم الجزيَةَ، ومعلومٌ أن إعطاء الجزيةِ من حين بَذْلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا الجزيةَ شَرَعُوا في الإعطاء، ووجب الكفُّ عنهم إلى أن يُقْبِضُونَاهَا فيتم الإعطاءُ؛ فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولاً وامتنعوا من تسليمها ثانياً لم يكونوا معطيْنَ للجزية؛ لأن حقيقة الإعطاءِ لم توجد، وإذا كان الصَّغَارُ حالاًّ لهم في جميع المُدَّة فمن المعلوم أن من أظهَرَ سَبَّ نبينا في وجوهنا وشَتَمَ ربَّنَا على رؤوسِ المَلأ منَّا وطَعَنَ في ديننا في مجامِعنا فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصَّاغِرَ الذليلُ الحقيرُ، وهذا فعلُ متعزِّزٍ مُرَاغِم، بل هذا غايةُ ما يكونُ من الإذلالِ له والإهانةِ.
قال أهل اللغةِ: الصَّغار: الذُّلُّ والضَّيْم، يقال: صَغِر الرَّجُلُ ـ بالكسرـ: يصْغَرُ ـ بالفتح ـ: صَغَراً وصُغَراً، والصّاغِرُ: الراضي بالضَّيمِ.
ولا يخفى على المتأمِّل أنَّ إظهارَ السبِّ والشتم لدينِ الأمةِ الذي به اكتسبت شَرَف الدنيا والآخرة ليس فعلَ راضٍ بالذلِّ والهوانِ، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.
وإذا كان قتالهم واجباً علينا إلا أن يكونوا صاغرين، وليسوا بصاغرين، كان القتالُ مأموراً به، وكلُّ من أُمِرْنَا بقتاله من الكفار فانه يُقْتَلُ إذا قَدَرْنَا عليه.
وأيضاً، فإنَّا إذا كُنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم بجزْ أن نَعْقِدَ لهم عهدَ الذمةِ بدونها، ولو عُقِدَ لهم كان عقداً فاسداً، فيبقون على الإباحة.
ولا يقال [فيهم]: فهم يحسبون أنهم مُعَاهَدُونَ، فتصير لهم شبهةُ أمانٍ، وشبهةُ الأمانِ كحقيقته، فإنَّ مَن تكلَّم بكلامٍ يحسبه الكافرُ أماناً كان في حقه أماناً وإن لم يقصدْه المسلم؛ لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنَّا لم/ نَرْضَ بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهارِ شتمِ دينِنا وسبَّ نبينَّا، وهم يَدْرُون أنا لا نعاهدُ ذمياً على مثل هذه الحال؛ فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا – مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكامُ الملةِ – دَعْوَى كاذبة، فلا يُلتفتُ إليها.
¥