تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المحادَّةِ.

وفي روايةٍ أُخْرَى صحيحةٍ أنه نَزل قولُه: ?يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُم? وقد قال: ?يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ? ثم قالَ عَقِبَه: ?أَلمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولهُ? فثبت أنَّ هؤلاءِ الشاتمين محادُّونَ، وسيأتي - إن شاءَ اللهُ – زيادةٌ في ذلك.

وإذا كان الأذى مُحَادَّةً للهِ ولرسولِهِ فقد قالَ اللهُ تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين* كَتبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ? والأذلُّ: أبلغُ مِن الذليلِ، ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله إنْ أظهر المحادَّة؛ لأنه [إنْ] كان دمُه ومالُه معصوماً لا يُسْتَبَاح فليس بأذلَّ، يدلُ عليه قوله تعالى: ?ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ? فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثُقِفوا فعليهم الذِّلَّةُ إلاَّ مع العهد، فعُلم أنَّ مَن له عهدٌ وحبلٌ لا ذِلَّةَ عليه وإن كانت عليه المسكنةُ فإنَّ المسكنةَ قد تكونُ مع عدم الذلة، وقد جعل المحادِّين في الأَذلِّينَ، فلا يكون لهم عهد، إذ العهدُ ينافي الذِّلَّةَ كما دلَّتْ عليه الآية، وهذا ظاهرٌ، فإنَّ الأذَلَّ هو الذي ليس له قوةٌ يمتنع بها ممن أراده بسوء، فإذا كان له من المسلمين عهدٌ يجب عليهم به نَصْره ومنعه فليس بأَذلَّ، فثبتَ أنَّ المحادَّ للهِ ولرسولهِ لا يكون له عهدٌ يَعْصِمه، والمؤذي للنبيِّ ? مُحَادٌّ، فالمؤذي للنبي ليس له عهدٌ يَعْصم دَمَه، وهو المقصودُ.

وأيضاً، فإنه قد قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ? والكَبْتُ: الإذلالُ والخِزْيُ والصَّرْعُ، قال الخليل: الكبت هم الصرع على الوَجْهِ. وقال النضر بن شُمَيل وابن/ قتيبة: هو الغيظ والحزن، وهو في الاشتقاق الأكبر من كبده، كأنَّ الغيظَ والحزن أصاب كبده، كما يقال: أحرق الحزنُ والعداوةُ كبدَه، وقال أهل التفسير: كُبِتُوا أُهلكوا وأُخْزُوا وحزِنوا، فثبت أن المحادَّ مكبوتٌ مخزِيٌّ ممتلٍ غيظاً وحزناً هالكٌ، وهذا إنما يتم إذا خافَ إن أظهرَ المحادَّةَ أن يُقتل، وإلا فمَن أمكنه إظهار المحادَّة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت، بل مسرورٌ جَذْلان، ولأنه قال: ?كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ?، وَالَّذِينَ من قبلهم ممن حادَّ الرسُلَ وحادَّ رسولَ الله إنما كَبَتَه الله بأن أهلكه بعذابٍ من عنده أو بأيدي المؤمنين، والكَبْتُ وإن كان يحصل منه نصيبٌ لكل من لم يَنَلْ غَرَضَه كما قال سبحانه: ?لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أوْ يكْبِتَهُم? لكن قوله تعالى: ?كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ? يعني محادِّي الرسل دليلٌ على الهلاك أو كَتْم الأذى، يبين ذلك أن المنافقين هم من الحادَّينَ، فهم مَكْبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قُتلوا، فيجب أن يكون كلُّ محادٍّ كذلك.

المحادة مغالبة ومعاداة

وأيضاً، فقوله تعالى: ?كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي? عقب قوله: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّينَ? دليلٌ على أن المحادةَ مغالبةٌ ومعاداة، حتى يكون أحدُ المتحادين غالباً والآخر مغلوباً، وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم، فعُلم أن المحادَّ ليس بمسالم، والغلبة للرسل بالحجة والقهر، فمن أُمر منهم بالحرب نُصر على عدوه، ومَن لم يؤمر بالحرب أُهْلك عدوه، وهذا أحسن من قول من قال: إن الغلبة للمحارب بالنصر، ولغير المحارب بالحجة، فعُلم أن هؤلاء المحادِّين محاربون مغلوبون.

وأيضاً فإن المحادة من المشاقَّة؛ لأن المحادَّة من الحدِّ والفصل والبَيْنُونة، وكذلك المشاقَّة من الشق وهو بهذا المعنى، [فهما] جميعاً بمعنى المقاطعة والمفاصلة، ولهذا يقال: إنَّما سميت بذلك لأن كل واحد من المتحادَّين والمتشاقَّين في حدٍّ وشِقٍّ من الآخر، وذلك يقتضي انقطاعُ الحبل الذي بين أهل العهد إذا حادَّ بعضُهم بعضاً، فلا حبل لمحادٍ لله ورسوله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير