أعْمَالَهُمْ (، وقوله:) و مَا مَنَعَهُمْ أنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولِهِ (، وهذا ظاهر، و لا تحبط الأعمال بغير الكفر؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لابُدَّ أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقاً إلا الكفر، وهذا معروف من أصول أهل السنة.
نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده، كما قال تعالى:) لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنّ وَالأذَى (، ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر.
فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك، وأنه مظنة لذلك وسببٌ فيه؛ فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، وأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى/ له، أو استخفافٍ به، وإن لم يقصد الرافع [ذلك]. فإذا كان الأذى والاستخفافُ الذي يحصل في سوء الأدب من غير قَصْدِ صاحبِهِ يكون كفراً؛ فالأذى والاستخفافُ المقصودُ المتعمَّدُ كفر بطريق الأولى.
الدليل السابع من القرآن
الدليل السابع على ذلك: قوله سبحانه:) لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (، أمر من خالف أمره أن يحذر الفتنة، والفتنة: الردَّة والكفر، قال سبحانه:) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (، وقال:) وَالفِتْنَةُ أَكْبَرْ مِنَ القَتْلِ (وقال:) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيهِمْ مِنْ أقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْها (، وقال:) ثمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا (.
يخشى على من خالف الرسول أن يزيغ أو يكفر
قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول e في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو:) فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبهُمْ فِتْنَةٌ (الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيُهلكه، وجعل يتلو هذه الآية:) فَلاَ وَرَبِكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ (.
وقال أبو طالب المُشكَاني ـ و قيل له: إن قوماً يَدَّعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان [وغيره] (*فقال ـ: أعْجَبُ لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يَدَعُونَهُ ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره*) قال الله تعالى:) فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أنْ تُصِيبهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيْبَهُمْ عذَابٌ أَلِيمٌ? وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى:) وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (فيدعون الحديث عن رسول الله e وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي".
فإذا كان المخالف عن أمره قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم دلَّ على أنه قد يكون مُفضياً إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ومعلومٌ أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، كما فعل إبليس، فكيف بما هو أغلظ من ذلك كالسبِّ و الانتقاص ونحوه؟
وهذا بابٌ واسع، مع أنه بحمد/ الله مُجْمَع عليه، لكن إذا تعدَّدَتِ الدلالاتُ تعاضَدَتْ على غلظ كفر السباب وعظم عقوبته، وظهر أن ترك الاحترام للرسول وسوء الأدب معه مما يُخاف معه الكفر المحبط كان ذلك أبلغ فيما قصدنا له.
لفظ الأذى يدل لغة على ما خف من الشر
ومما ينبغي أن يُتَفطن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خفَّ أمره وضعف أثره من الشر والمكروه، ذكره الخطابيُّ وغيره، وهو كمال قال، واستقراء موارده يدّل على ذلك، مثل قوله تعالى:) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلاَََّ أَذَى (، و قوله:) وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ المحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المحِيْضِ (.
¥