تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفيما يؤْثر عن النبي e أنه قال: "القُرُّ بُؤْسٌ وَالحَرَّ أذى"، و قيل لبعض النسوة العربيات: القُرَّ أشد أم الحر؟ فقالت: من يجعل البؤس كالأذى؟ و البؤسُ خلاف النعيم، وهو ما يُشقِي البَدَنَ ويضره، بخلاف الأذى فإنه لا يبلغ ذلك، ولهذا قال:) إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَه (، وقال سبحانه فيما يروى عنه رسوله e: " يُؤْذِيِنْي ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ"، و قال النبي e: " مَنِ لِكَعْبِ بِنْ الأشْرَفِ؛ فإنَّه قَدْ آذى اللهَ وَرَسُولَهُ؟ "، وقال: "مَا أحَدٌ أصْبَر عَلَى أذىً يَسْمَعهُ مِنَ اللهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَشَرِيكاً وَهُوَ يُعَافِيهِم وَيَرْزُقُهُمْ"، وقد قال سبحانه فيما يروى عنه رسوله e: " يا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني"، و قال سبحانه في كتابه:) وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ في الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً (فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم، لكن يؤذونه تبارك وتعالى إذا سبُّوا مقلِّبَ الأمور أو جعلوا له سبحانه ولداً أو شريكاً أو آذوا رسله وعباده المؤمنين، ثم إن الأذى لا يضرُّ المؤْذَى إذا تعلَّق بحق الرسول فقد رأيت عظم موقعه، وبيان أن صاحبه من أعظم الناس كفراً وأشدهم عقوبة، فتبين بذلك أن قليل ما يؤْذيه يكفر به صاحبه، ويحل دمه.

و لا يَرِدُ على هذا قوله تعالى:) لاَ تَدْخُلوا بُيُوتَ النَّبيّ (ـ إلى قوله ـ:) إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤذِي النَّبيَّ فَيَسْتَحْيي مِنْكُم (فإن المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل، واستئناسهم للحديث، لا أنهم/ هم آذوا النبي e، والفعل إذا آذى النبي من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه ولم يقصد صاحبه آذاه فإنه يُنْهى عنه ويكون معصيةً كرفع الصوت فوق صوته، فأما إذا قَصَد أذاه أو كان مما يؤذيه وصاحبه يعلم أنه يؤذيه وأقدم عليه مع استحضار هذا العلم فهذا الذي يُوجب الكفر و حبوط العمل، والله سبحانه أعلم.

الدليل الثامن حرمة تزوج أمهات المؤمنين بعد وفاة النبي

الدليل الثامن على ذلك: أن الله سبحانه قال:) وَمَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أبَداً إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (، فحرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد تُوُفيّ رسول الله e تزوجت عائشة، ثم إن مَن نكح أزواجه أو سَرَاريه [فإن] عقوبته القتلُ، جزاءً له بما انتهك من حرمته، فالشاتم له أولى.

و الدليل على ذلك ما روى مسلم في "صحيحه" عن زُهَيْر عن عَفَّان عن حماد عن ثابت عن أنس أن رجلاً كان يُتَّهَمُ بأم ولد النبي e، فقال رسول الله e لعلي: "اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَه"، فأتاه عليّ فإذا هو في رَكيٍّ يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي، ثم أتى النبي e فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ماله ذَكَر"، فهذا الرجل أمر النبي e بضرب عنقه لما قد استحلَّ من حرمته، ولم يأمر بإقامة حدِّ الزنى، لأن حد الزنى ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان مُحصناً رُجِمَ، وإن كان غير محصن جُلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي e بضرب عنقه من غير تفصيلٍ بَيْنَ أن يكون محصناً أو غير محصن عُلم أن قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رَأيَاه يباشر هذه المرأة، أو شهدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبين أنه كان مَجْبُوباً علم أن المفسدة مأمونة منه، أو أنه بَعثَ علياً ليَستبري القصة، فإن كان ما بلغه عنه حقاً قتله، ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: "بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لاَ يَرَى الغَائِبُ".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير