فإذا كان النبي e قد عاهد المعاهدين اليهودَ عهداً بغير ضرب جزية عليهم، ثم إنه أهدر دَمَ يهوديةٍ/ منهم لأجل سَبِّ النبي e فَأَنَّه يُهْدِرَ دَمَ يهودية من اليهود الذين ضُرِبَت عليهمُ الجزيةُ وأُلزموا أحكام الملة لأجل ذلك أَوْلَى وأَحْرَى، ولو لم يكن قَتْلُهَا جائزاً لبيَّن للرجل قُبْحَ ما فعل؛ فإنه قد قال e: " مَنْ قَتَلَ نَفْساً مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يُرِحْ رَائِحَة الجَنَّةِ" وَلأوجَبَ ضمانها أو الكفارة كفارة قتل المعصوم، فلما أهدر دَمَهَا عُلم أنه كان مُبَاحاً.
الدليل الثاني من السنة على قتل الساب
الحديث الثاني: ما رَوَى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحَّام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعْمَى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النبي e وتَقَعُ فيه؛ فَيَنْهَاها فلا تَنْتَهِي، و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جَعَلَت تقعُ في النبي e وتشتمه؛ فأخَذَ المِغْول فوضَعَه في بطنها واتَّكَأَ عليها فقتلها، فلما أصْبَحَ ذُكِرَ ذلك للنبي e، فجمع الناسَ فقال: "أنْشدُ الله رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌ إِلاَّ قَامَ"، فقام الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يتدلدل، حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ e، فقال: يا رسول الله أنا صَاحِبُهَا، كانت تشتمك و تَقَعُ فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجُرُها فلا تَنزَجر، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقعُ فيك، فأخذت المِغْول فوضعته في بطنها واتَّكَأْتُ عليه حتى قتلتُهَا، فقال النبي e: " ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ" رواه أبو داود والنسائي.
و المِغْوَلُ ـ بالغين المعجمة ـ قال الخطابي: "شبيه المِشْمَلِ ونَصْلُه دقيق ماضٍ"، وكذلك قال غيره: هو سيف رقيق له قَفًا يكون غمده كالسوط، و المِشْمَلِ: السيفُ القصيرُ، سُميّ بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل، أي: يغطيه بثوبه، واشتقاق المغول من غَالَهُ الشيء واغتاله إذا أخذه من حيث لم يَدْرِ.
وهذا الحديث مما استدلَّ به الإمام أحمد في رواية عبدالله قال: ثنا رَوْح ثنا عثمان الشحَّام ثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلاً أعْمَى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النبيَّ e، فقتلها، فسأله عنها، فقال: يا رسول الله إنها كانت تَشْتُمُكَ، فقال رسول الله e:
" ألاَ إنَّ دَمَ فُلانَةً هَدَرٌ".
هل قصة المرأتين واحدة أم متعددة؟
فهذه القصة يمكن أن تكون/ هي الأولى، وعليه يدلُّ كلامُ [الإمام] أحمد؛ لأنه قيل له في رواية عبدالله: "هل في قتل الذمي إذا سَبَّ أحاديث؟ قال: نعم، منها حديث الأعْمى الذي قتل المرأة، قال: سَمِعْتُهَا تَشْتُمُ النبيَّ e".
ثم روى عنه عبدالله كلا الحديثين، و يكون قد خَنَقَها وبَعَجَ بَطْنَهَا بالمغول: أو يكون كيفية القتل غير محفوظة في إحدى الروايتين.
ويؤيد ذلك أن وقوع قِصَّتين مثل هذه لأعْمَيَينِ كلٌّ منهما كانت المرأة تحسن إليه وتُكَرِّر الشتم، وكلاهما قتلها وحده، وكلاهما نَشَدَ رسولُ الله e فيها الناسَ، بعيدٌ في العادة، وعلى هذا التقدير فالمقتولَةُ يهودية كما جاء مُفَسَّراً في تلك الرواية، وهذا قول القاضي أبي يَعْلَي وغيره، استدلُّوا بهذا الحديث على قتل الذميِّ ونَقْضِه العهدَ، وجعلوا الحديثين حكايةَ واقعةٍ واحدةٍ.
ويمكن أن تكون هذه القصة غير تلك، قال الخطابي: "فيه بيان أن سابَّ النبي e يقتل، وذلك أن السب منها لرسول الله e ارتدَادٌ عن الدين"، وهذا دليلٌ على أنه اعتقد أنها كانت مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرة، وكان العهد لها يملك المسلم إياها؛ فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حُكْمُ أهل الذمة، وهم أشَدُّ في ذلك من المعاهدين، أو بتزوج المسلم بها؛ فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهلِ الذمة في العصمة؛ لأن مثل هذا السبِّ الدائم لا يفعله مسلم إلا عن ردة واختيار دين غير الإسلام، ولو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يُقِرَّها سيدُهَا على ذلك أياماً طويلة، ولم يَكْتَفِ بمجرد نهيها عن السَّب، بل يطلب منها تجديد الإسلام، لا سيما إن كان يَطَؤُهَا، فإن وَطْءَ المُرْتَدَةِ لا يجوز، والأصْلُ عدمُ تغير حالها، وأنها كانت باقيةً على دينها، يوضح ذلك أن الرجل لم يقل: كَفَرْت ولا
¥