تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن قيل: كعب بن الأشرف سَبَّ النبيَّ e بالهجاء، والشِّعْرُ كلام موزون يحفظ ويروى وينشد بالأصوات والألحان ويشتهر بين الناس، وذلك له من التأثير في الأذى والصَّدِّ عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور، ولذلك/ كان النبي e يأمر حسان أن يهجوهم ويقول: "لَهُوَ أَنْكَى فِيْهِمْ مِن النَّبْلِ" فيؤثر هجاؤه فيهم أثراً عظيماً، يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سُبُّوا بكلام منثور أضعاف الشعر.

وأيضاً، فإن [كعب] بن الأشرف وأم الولد المتقدمة تكرر منهما سَبُّ النبي e وأذاه وكثر، و الشيء إذا كثر واستمر صار له حال أخرى ليست له إذا انفرد، وقد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل كل مَنْ كثر منه مثل هذه الجريمة، وإن لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه، فإن ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به.

قلنا أولاً: إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة [من الذمي] مُهْدِرٌ لدمه ناقض لعهده، ويبقى الكلام في الناقض للعهد: هل هو نوع خاص من السب ـ وهو ما كثر أو غلظ ـ أو مطلق السب؟ هذا نظر آخر، فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال: إنه مهدرٌ لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة، فلو زعم زاعم أن شيئاً من كلام الذمي وأذاه لا يبيح دمه كان مخالفاً للسنة الصحيحة الصريحة خلافاً لا عذر فيه لأحد.

قد تتغلظ الجناية بالأحوال والأماكن والأزمان

وقلنا ثانياً: لا ريب أن الجنس الموجِبَ للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدراً، أو صفة وقدراً فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والدٍ أو ولد عالم صالح، و لا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين، وليست الجناية في الأوقات والأماكن والأحوال المشَرَّفة كالحرم والإحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك، وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب، وقال النبي e ـ وقد قيل له: أي الذنب أعظم؟ ـ قال: "أَنْ تَجعلَ للهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ". قيل: ثم أي؟ قال: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". قيل له: ثم أي؟ قال: "ثُمَّ أن تُزَاني حَلِيلَةَ جَارِكَ".

و لاشك أن من قَطَعَ الطريق مرات متعددة، وسفك دماء خلق من المسلمين وكثر منه أخذ الأموال كان جُرْمُه أعْظَمَ من جرم من لم يفعله إلا مرة واحدة، و لا رَيْبَ أن من أكثر مِن سَبِّ النبي e أو نظَّمَ القصائد في سبِّه فإن جُرْمَه أغلَظُ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة، بحيث يجب أن تكون إقَامَةُ/ الحد عليه أوْكَدَ، والانتصارُ لرسول الله e أوْجَبَ، وأن المُقِلَّ لو كان أهلاً أن يُعْفَى عنه لم يكن أهلاً لذلك.

ولكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدلُّ على أن جنس الأذَى لله ورسوله، ومُطْلَقَ السب الظاهر مُهْدرٌ لدم الذمي ناقض لعهده وإن كان بعض الأشخاص أغلظ جرماً من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قَدْراً، وذلك من وجوه:

مطلق الأذى هو العلة

أحدها: أن النبي e قال: "مَن لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ؟ " فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله ورسوله، وأذى الله ورسوله اسم مُطْلَق ليس مقيداً بنوع ولا بقدر؛ فيجب أن يكون مطلق أذى الله و رسوله علةً للانتداب إلى قتل مَن فَعَلَ ذلك من ذمي وغيره، وقليل السب وكثيره ومنظومه ومنثوره أذى بلا ريب، فيتعلق به الحكم وهو أمر الله ورسوله بقتله، ولو لم يرد [هذا] المعنى لقال: من لكعب ابن الأشرف فإنه قد بالغ في أذى الله ورسوله، أو قد أكثر من أذى الله ورسوله، أو قد دام على أذى الله ورسوله، وهو e الذي أوتي جوامع الكلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يخرج من بين شَفَتَيْه e إلا حقٌّ في غضبه ورضاه.

وكذلك قوله في الحديث الآخر: "إنّه نَالَ مِنَّا الأَذَى، وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَ لاَ يَفْعَل هَذَا أَحَدٌ مِنْكُم إِلاَّ كَانَ السَّيْف" ولم يقيده بالكثرة.

لا تأثير للنظم في العلية

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير