ثم إن في الحديث أنَّ نَوْفَلَ بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي e، وقد ذكر عَامَّةُ أهل السِّيَرِ أن نوفلاً هذا هو رأس البكريين الذين عَدَوْا على خُزَاعة وقَتَلُوهم، وأعانتهم قريشٌ على ذلك، وبسبب ذلك انتقض عهدُ قريشٍ وبني بكر، ثم إنه أسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هَجَا النبي e؛ فعلم أن الهجاء أغْلَظُ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قومٌ العهدَ بالقتال وآخرون هَجَوا ثم أسلموا عُصِمَ دَمُ الذي قاتل، وجاز الانتقام من الهاجي، ولهذا قَرَنَ هذا الرجلُ خَرْقَ العِرْضِ بسفك الدَّم، فعلم أن كليهما موجبٌ للقتل، وأن خَرْقَ عِرْضِهِ كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين والمعاهدين.
ومما يوضح/ هذا أن النبي e لم يهدر دم أحد من بني بكر الناقضين للعهد بعينه وإنما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار، وأهدر دم هذا بعينه حتى أسلم واعتذر؛ هذا مع أن العهد كان عهد هدنة و موادعة، لم يكن عهد جزية وذمة، والمهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من مُنْكَرات الأقوال والأفعال المتعلقة بدينه ودنياه، ولا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب؛ فعلم أن الهجاء من جنس الحراب وأغلظ منه، وأن الهاجي لا ذمة له.
الدليل التاسع قصة ابن أبي سرح
الحديث التاسع: قصة ابن أبي سرح، وهي مما اتفق عليها أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضة يستغنى عن رواية الآحاد، وذلك أثبت وأقوى مما رواه الواحد العدل، فنذكرها مسندة مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها:
عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ فتحِ مكة اختبأ عبدالله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي e، فقال: يا رسول الله، بَايْع عبدالله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رَجُلٌ رَشِيد يقومُ إلى هذا حيث رآني كَفَفَتُ يَدِي عن بيعته فيقتله" فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أوْمَأْت إلينا بعينك، قال: "إنه لا يَنْبَغِي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأُعْيُن" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ورواه النسائي كذلك بأبسط من هذا عن سعد قال: "لما كان يوم فتح مكة أَمَّنَ رسول الله e الناس إلا أربعة نفر، قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، و عبدالله بن خَطَل، و مِقْيَس بن صُبَابة، و عبدالله بن سعد بن أبي سرح.
فأما عبدالله بن خطل فأُدْرِك وهو متعلِّق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً، وكان أشب الرجلين فقتله، وأما مِقْيَس بن صُبَابة فأدركه الناس في السوق، فقتلوه.
وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف، فقال أصحاب السفينة:/ أخلِصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً هاهنا، فقال عكرمة والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عليَّ عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً e حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفواً كريماً، فجاء وأسلم.
وأما عبدالله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله e الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي e.." ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود و عن عبدالله بن عباس قال: "كان عبدالله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله e، فأزلَّه الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله e أن يُقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله e" رواه أبو داود.
وروى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله e أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح، و فَرْتَنَى، و ابن الزِّبَعْرَي، وابن خَطَل، فأتاه أبو برزة وهو متعلق بأستار الكعبة فَبَقَرَ بطنه، وكان رجلٌ من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله، فجاء عثمان ـ وكان أخاه من الرضاعة ـ فشفع له إلى رسول الله e، وقد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينظر إلى النبي e متى يومئ إليه أن يقتله، فشفع له عثمان حتى تركه، ثم قال رسول الله e للأنصاري: "هَلاَّ وَفَّيْتَ بِنَذْرِك؟ " فقال: يا رسول الله وضَعْتُ يدي على قائم السيف أنتظر متى تومئ فأقتله، فقال النبي e: " الإيماء خيانة ليس لنبي أن يُومئ".
¥