وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية، قَصَمَه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه؛ إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة رَيْباً بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره، وقد أخبر عنه بما أخبر، فمِنْ نَصْر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفترِ.
قصة كاتب آخر قصمه الله لافترائه على الرسول
فروى البخاري في "صحيحه" عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال: كان رجلاً نصرانياً، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي e، فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لَفَظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه، نَبَشُوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له و أعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه.
/ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: كان منّا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي e، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فعرفوه، قالوا: هذا [قد] كان يكتب لمحمد، فأُعجِبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فَوَارَوْهُ، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا له فحفروا له فوَاروْه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، (ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها)، فتركوه منبوذاً.
فهذا الملعون الذي افترى على النبي e أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
من تجارب المسلمين في عصر المؤلف فيمن سب الرسول
ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر [أو] أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله e و الوقيعة في عِرْضِه، تعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عَنْوَة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه.
وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين.
السنة في المرتد لا يقتل حتى يستتاب
فكذلك لما تمكن النبي e من ابن أبي سرح أهدر دمه، لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب، مع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه/ وحاربوه أشد المحاربة، ومع أن السنة في المرتد انه لا يُقتل حتى يستتاب إما وجوباً أو استحباباً.
وسنذكر ـ إن شاء الله ـ أن جماعة ارتدوا على عهد النبي e ثم دُعُوا إلى التوبة، وعُرِضت عليهم، حتى تابوا وقبلت توبتهم.
وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول e الساب له أعظم من جرم المرتد.
ثم إن إباحة النبي e دمه بعد مجيئه تائباً مسلماً وقوله: "هَلاَّ قَتَلْتُمُوه" ثم عَفْوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي e كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه، وهو دليل على أن له e أن يقتل من سبه وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
الاستدلال على أنه يجوز قتل الساب وإن تاب
يوضح ذلك أشياء:
منها: أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي e بها، وقد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي e: " إن جرمي اعظم الجرم، وقد جئت تائباً"، وتوبة المرتد إسلامه.
¥