ثم إنَّه جاء إلى النبي e بعد الفتح وهدوء الناس، وبعد ما تاب، فأراد النبي e من المسلمين أن يقتلوه حينئذٍ، وتربص زماناً ينتظر [فيه] قتله، ويظن أن بعضهم سيقتله، وهذا أوضح دليل على جواز قتله بعد إسلامه.
وكذلك لما قال له عثمان: إنه يفر منك كلما رآك، قال: "ألَمْ أُبَايِعْهُ و أُومِنْهُ؟ " قال: بلى، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام، فقال: "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ" فبين النبي e أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان، وأن الإثم زال بالإسلام؛ فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام جبّ الإسلام إثم السب، وبقي قتله جائزاً حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكناً.
وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر هذا في موضع؛ فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله e والوقيعة فيه يُوجِبُ القتل في الحال التي لا يُقْتَلُ فيه لمجرد الردة، وإذا كان ذلك مُوجباً للقتل استوى فيه المسلم/ والذمي، لأن كل ما يوجب القتل ـ سوى الردة ـ يستوي فيه المسلم والذمي.
وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولإحدى القينتين دليل على أن النبي e لم يُوجِب قتلهم، وإنما أباحه مع جواز عفوه عنهم، وفي ذلك دليل على أنه كان مخيراً بين القتل و العفو، وهذا يؤيد أن القتل كان لحقِّ النبي e.
الرد على فرية ابن أبي سرح والنصراني
واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله e بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر.
وكذلك قوله: "إني لأصرفه كيف شئت، إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا وكذا؟ فيقول: نعم" فرية ظاهرة؛ فإن النبي e كان لا يُكْتِبه إلا ما أنزله الله، ولا يأمره أن يُثْبتَ قرآناً إلا ما أوحاه الله [إليه]، و لا ينصرف له كيف شاء، بل يتصرف كما يشاء الله.
وكذلك قوله: "إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إليَّ كما يوحى إلى محمد، وإن محمداً إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل [الله] فرية ظاهرة، فإن النبي e لم يكن يُكتبه ما شاء و لا كان يُوحى إليه شيء.
وكذلك قول النصراني: "ما يدري محمدٌ إلا ما كتبت له" من هذا القبيل، وعلى هذا الإفتراء حاق به العذاب، واستوجب العقاب.
آراء العلماء فيما ذكره ابن أبي سرح والنصراني
ثم اختلف أهل العلم: هل كان النبي e أقَرَّه على أن يكتب شيئاً غير ما ابتدأه النبي e بإكتابه؟ وهل قال له شيئاً؟ على قولين:
أحدهما: أن النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله e ذلك كله، وأنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلاً، وإنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه ليُنَفِّرا عنه الناس، ويكون قبول ذلك منهما متوجهاً، لأنهما فارقاه بعد خبرة، وذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي e يقول له: هذا الذي قلته ـ أو كتبته ـ صواب، وإنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك، وهو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك.
يبين ذلك أن الذي في "الصحيح" أن النصراني [كان] يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي e ويغيره ويزيده وينقصه، فظن أن عمدة النبي e/ على كتابته مع ما فيها من التبديل، ولم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وأنه لا يغسله الماء، وأن الله حافظ له، وأن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته، وأن جبريل كان يعارض النبي e بالقرآن كل عام، وأن النبي e إذا أنزلت عليه الآية أقرأها لعددٍ من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم، وأكْثَرُ مَنْ ذكر هذه القصة [مِن] المفسرين ذكر أنه كان يُملي عليه: "سميعاً عليماً"، فيكتب هو: "عليماً حكيماً"، وإذا قال: "عليماً حكيماً" كتب: "غفوراً رحيماً" و أَشباه ذلك، ولم يذكر أن النبي e قال له شيئاً.
قالوا: و إذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفِرْيَةِ والكذب حتى أظهر الله كذبه آيةٌ بينة، والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي e ما قال، أو أنه كتب ما شاء فقط علم أن النبي e لم يقل له شيئاً.
قالوا: وما روي في بعض الروايات أن النبي e قال فهو منقطع أو مُعَلَّل، ولعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك، ومثلُ هذا قد يلتبس الأمر فيه، حتى يشتبه ما قاله النبي e وما قيل: إنه قاله وعلى هذا القول فلا سؤال أصلاً.
¥