و أما القينتان فأمر رسول الله e بقتلهما، فقتلت إحداهما: أرْنَب أو قريبة، وأما فَرْتنى فاستؤمن لها حتى آمنت، وعاشت حتى كُسِر ضِلع من أضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت، فقضى فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية آلاف درهم دِيتها و ألفين تغليظاً [للجرم].
وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير، واستفاض نقله استفاضة يُستغنى بها عن رواية الواحد، وحديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي ومن له مَزِيد خبرة واطلاع، وبعضهم لم يذكره.
وجه دلالة قصة القينتين
فوجه الدلالة: أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله e.
ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: "وُجِدَتِ امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله e، فنهى رسول الله e عن قتل النساء والصبيان".
وفي حديث آخر أنه مرَّ على امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر قتلها وقال: "مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ" ثم قال لأحدهم: "اِلْحَقْ خَالِداً فَقُلْ لهُ: لاَ تَقْتُلْ ذُرِّيَّةً وَ لاَ عَسِيفْاً" رواه أبو داود و غيره.
وقد روى الإمام أحمد في المسند عن [ابن] كعب بن مالك عن عمه أن النبي e حين بعث إلى ابن أَبي الحُقَيق بخيبر "نهى عن قتل النساء والصبيان" وهذا مشهور عند أهل السير.
و في الحديث من رواية الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك: ثم صعدوا إليه في عِلِّيَّة، فقرعوا عليه الباب، فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ فقالوا: حي من العرب نريد المِيْرَة، ففتحت لهم، فقالت: ذاك الرجل عندكم في البيت، فغلقنا علينا وعليها باب الحجرة، ونوَّهت بنا فصاحت، وقد نهانا رسول الله e حين بعثنا عن قتل النساء و الولدان، فجعل الرجل منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله e عن قتل النساء فيمسك يده، فلولا ذلك فَرَغْناَ منها بليل، وذكر الحديث.
وكذلك روى يونس بن بكير عن عبدالله بن كعب بن مالك قال: حدثني عبدالله بن أُنيس، قال في الحديث: فقامت ففتحت، فقلت لعبدالله بن عُتيك: دونك فشهر عليها السيف، فذهبت امرأته فأشهُرُ عليها السيف، وأذكر قول رسول الله e: أنه نهى عن قتل النساء و الصبيان فأكُفُّ.
وكذلك رواه غير واحد عن ابن أنيس قال: فصاحت امرأته، فهَمَّ بعضنا أن يخرج إليها، ثم ذكرنا أن رسول الله e نهانا عن قتل النساء.
متى حرم قتل النساء؟
وهذه القصة كانت قبل فتح مكة، بل قبل فتح خيبر أيضاً، بلا خلاف بين أهل العلم، وذكر الواقدي أنها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق، وذكر ابن إسحاق أنها كانت عقب الخندق، وهما جميعاً يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس، وأما موسى بن عقبة فقال: في شوال سنة أربع، وحديث ابن عمر يدل عليه، وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان.
و إنما ذكرنا هذا رفعاً لوهم من قد يظن أن قتل النساء كان مباحاً عام الفتح ثم حرم بعد ذلك، وإلا فلا ريب عند أهل العلم أن قتلَ النساء لم يكن مباحاً قَطُّ فإن آيات القتال و ترتيب نزولها [كلها] دليل على أنَّ قتل النِّساء لم يكن جائزاً، هذا مع أن أولئك النسوة اللاتي كن في حصن ابن أبي الحُقيق إذ ذاك لم يكن يطمع هؤلاء النَّفر في استرقاقهن، بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل/ فَتحها بمدَّة، مع أن المرأةَ قد صاحت و خافوا الشَّرَّ بصوتها، ثم أمسكوا عن قتلها لرجائهم أن ينكف شَرُّها بالتَّهويل عليها.
نَعَمْ المحرَّم إنما هو قصد قتلهن، فأمَّا إذا قصدن قصد الرِّجال بالإغارة أو برمي منجنيق أو فتح [شق] أو إلقاء نارٍ فتَلِف بذلك نساءٌ أو صِبيان لم نأثم بذلك؛ لحديث الصَّعْبِ بن جَثَّامة أنه سال النبي e أهل الدَّار من المشركين يُبَيَّتُونَ فيُصاب الذُّرِّية، فقال: "هُمْ مِنْهُمْ" متفق عليه، ولأن النبي e رمى أهل الطائف بالمنجنيق مع أنه قد يصيب المرأة والصبي، وبكل حال فالمرأة الحربية غير مضمونة بقود ولا ديةٍ ولا كفارةٍ، لأن النبي e لم يأمر مَن قَتَل المرأة في مغازيه بشيء من ذلك، فهذا [ما تفارق] به المرأة الذمية، وإذا قاتلت المرأة الحربية جاز قتلها بالاتفاق؛ لأن النبي e علل المنع من قتلها بأنها لم تكن تقاتل، فإذا قاتلت وُجِدَ المقتضى لقتلها، وانتفى المانع، لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل؛ فلا يُقْصَد قتلها، بل دفعها، فإذا قُدِر عليها لم يجز قتلها، وعند
¥