ومما يوضح ذلك أن النبي e آمن الناس به إلا بني بكر من خزاعة، وإلا النفر المسَمَّيْن إما عشرة أو أقل من عشرة أو أكثر؛ لأن بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد و قتلوا خزاعة، فعلم أنه فَرَّق بين من نقض العهد وفَعَلَ ما يبيح الدم وبين من لم يفعل شيئاً غير الموافقة على نقض العهد، فبكل حالٍ لم يُقتل هؤلاء النسوة للحراب العام والنقض العام، بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله، سواء ضم إليه كونه من ذي عهد أو لم يضم.
و اعلم أن ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سَبّيْن رسول الله e مثل اليهودية وأم الولد عصماء، لو لم يثبت أنهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزاً، فإن كل ما جاز أن تقتل به المرأة التي ليست مسلمةً ولا معاهدةً من فعلها و قولها فأن تقتل به المرأة المعاهدة أولى وأحرى، فإن موجبات القتل في/ حق الذمية أوسع من موجباته في حق التي ليست ذميةً.
و مما يدل [على] مثل هذه الدلالة ما رُوي أن امرأةً كانت تسب النبي e فقال: "مَن يَكْفِيْني عَدُوِّي؟ " فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها.
قصة قتل ابن خطل
الحديث الحادي عشر: ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل، ففي "الصحيحين" من حديث الزهري عن أنس أن النبي e دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المِغْفَر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه: أن رسول الله e أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل.
وقد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه وهو متعلق بأستار الكعبة فَبَقَرَ بطنه.
وكذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال: فيَّ نزلت هذه الآية) لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ (أَخرجتُ عبدالله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضربتُ عنقه بين الركن والمقام.
وذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مُدجَّجاً في الحديد ... ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة، فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله رعبٌ حتى ما يستمسك من الرَّعْدَة، حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره.
وقد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن النبي e استعمله على الصدقة، وأصحبه رجلاً يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاماً أمره بصنعه، فقتله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل، فارتد و استاق إبل الصدقة، وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله e، ويأمر جاريتيه أن تغنيا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم: قتل النفس، والردة، و الهجاء.
فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس؛ لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قوداً، والمقتول من خزاعة له أولياء، فكان حكمه لو قتل قوداً أن يُسَلّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا/ الدية، ولم يقتل لمجرد الردة؛ لأن المرتد يستتاب، و إذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِرَ، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت، عائذاً به، طالباً للأمان، تاركاً للقتال، ملقياً للسلاح، حتى يُنْظَر في أمره، وقد أمر النبي e بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد، فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة، ولا يؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة.
ما يُفاد من قصة ابن خطل
وقد استدل بقصة ابن خطل طائفةٌ من الفقهاء على أن من سب النبي e من المسلمين يقتل وإن أسلم حداً.
واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقتل لذلك.
وجوابه: أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً منقاداً قد ألقى السَّلَم كالأسير، فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط.
يؤيده أن النبي e أَمَّن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة، وكان ممن أهدر دمه دون غيره، فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب.
جماعة أمر النبي بقتلهم
السُّنَّة الثانية عشرة: أن النبي e أمر بقتل جماعة لأجل سبه، وقُتل جماعة لأجل ذلك، مع كفه وإمساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافراً حربياً؛ فمن ذلك ما قدمناه عن سعيد بن المسيب أن النبي e أمر يوم الفتح بقتل ابن الزِّبَعرَى.
¥