وفي حديث آخر: وذلك أنه بلغه أن رسول الله e ندر دمه لقولٍ بلغه عنه، فقَدِم على رسول الله e مسلماً، ودخل مسجده وأنشد القصيدة، فقد أُخبر أن رسول الله e كتب في قتل رجال بمكة لأجل هجائهم وأذاهم، حتى فَرَّ مَن فرَّ منهم إلى نجران، ثم رجع ابن الزِّبَعْرَى تائباً مسلماً، وأقام هُبَيْرَة بنجران حتى مات مشركاً، ثم إنه أهدر دم كعب لِمَا قاله مع أنه ليس من بليغ الهجاء؛ لكونه طَعَن في دين الإسلام و عَابه، وعاب ما يدعو إليه الرسول e ثم إنه تاب قبل القدرة عليه، وجاء مسلماً، وكان حربياً، ومع هذا فهو يلتمس العفو ويقول:
* لاَ تَأْخُذَنّني بِأَقْوَالِ الوُشاَةِ ولَمْ أُذْنِبْ *
ومن ذلك: ما نُقل أنه كان e يندب إلى قتل من يهجوه، ويقول: "مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟ ".
قال الأموي: سعيد بن يحيى بن سعيد في مغازيه: ثنا أبي قال: أخبرني عبدالملك بن جريج عن رجلٍ أخبره عن عكرمة عن عبدالله بن عباس أن رجلاً من المشركين شتم رسول الله e، فقال رسول الله e: " مَن يَكْفِينِي عَدُوِّي؟ " فقام الزبير بن العوام فقال: أنا، فبارزه، فأعطاه رسول الله e سَلَبَهُ، ولا أحْسِبه إلا في خيبر حين قُتل ياسر، ورواه عبدالرزاق أيضاً.
و رَوَى أن رجلاً كان [يسبّ] النبي e فقال: "مَن يَكْفِينِي عَدُوِّي؟ " فقال خالد: أنا، فبعثه النبي e، فقتله.
أصحاب الرسول يقتلون الساب ولو كان قريباً
ومن ذلك: أن أصحابه كانوا إذا سمعوا من يَسُبُّه ويؤذيه e قتلوه، وإن كان قريباً، فيقرهم على ذلك و يرضاه، وربما سمى مَن فعل ذلك ناصراً لله ورسوله.
فروى أبو إسحاق الفَزَارِي في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سُميع عن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي e فقال: إني لقيت أبي في المشركين، فسمعت منه مقالة قبيحة لك، فما صبرت أن طعنته بالرمح فقتلته، فما شقَّ ذلك عليه.
قال: وجاء آخر فقال: إني لقيتُ أبي في المشركين فصَفَحْتُ عنه، فما شَقَّ ذلك عليه.
وقد رواه الأموي وغيره من هذه الطريق.
وروى أبو إسحاق الفزاري أيضاً في كتابه عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: بعث رسول الله e جيشاً فيهم عبدالله بن رواحة وجابر، فلما صافوا المشركين أقبل رجلٌ منهم يسب رسول الله e فقام رجل من المسلمين فقال: أنا فلان بن فُلان، وأمي فلانة، فَسُبَّني وسُبَّ أمي، وكُفَّ عن سب رسول الله e، فلم يزده ذلك إلا إغْرَاء، فأعاد مثل ذلك، وعاد الرجل مثل ذلك، فقال في الثالثة: لَئنْ عُدت لأرْحَلَنَّك بسيفي، فعاد، فحمل عليه الرجل، فولّى مُدبراً، فاتَّبعه الرجل حتى خرق صفوف المشركين، فضربه بسيفه، وأحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله e: " أَعَجِبْتُمْ مِنْ رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَه؟ " ثم إن الرجل برئ من جراحه، فأسلم، فكان يسمى الرحيل، ورواه الأموي في مغازيه من هذا الوجه.
وقد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال ـ حين بلغه أذى بنت مروان للنبي e ـ: اللهم إنَّ عليَّ نذراً لئن رددت رسول الله e إلى المدينة لأَقتلنَّها، فقتلها بدون إذن النبي e، فقال النبي e: " إِذَا أَحْبَبْتُم أَنْ تَنْظُرُوا إِلَى رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَه بِالغَيْبِ فَانْظُرُوا إِلَى عُمَيْر بنِ عَدِيٍّ".
وكذلك حديث اليهودية وأم الولد، فإن النبي e/ أهدر دمها لما قتلت لأجل سبه، (وقد قتلت بدون إذنه. فهذا مما يدخل في أنه e أقرّ من قتل رجلاً لأجل سبه).
وقد تقدم أيضاً حديث الرجل الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي e، وأن النبي e أمسك عن مبايعته ليقوم إليه ذلك الرجل فيقتله ويفي بنذره.
مؤمنو الجن يقتل السّاب من كفارهم
وقد ذكروا أن الجنَّ الذين آمنوا به كانت تقصد من يسبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة وقبل الإذن في القتال له وللأنس، [فيقرها] على ذلك، ويشكر ذلك [لها].
قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني محمد بن سعيد ـ يعني عمه ـ قال: قال محمد بن المُنْكَدِر: إنه ذُكِر له عن ابن عباس أنه قال: هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس، فقال:
قَبَّحَ اللهُ رَأْيَكُمْ آلَ فِهْرٍ مَا أَدَقَّ العُقُولَ وَ الأَحْلامِ
حِيْنَ تُغْضِي لمنْ يَعِيْبُ عَلَيْهَا دِيْنَ آبَائِها الحُْمَاةِ الكِرَامِ
حَالَفَ الجِنّ جِنّ بُصْرَى عَلَيْكُمْ وَ رِجَال النَّخِيْلِ و الآطَامِ
¥