فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي e ويؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله، ويحض عليه لأجل ذلك، وكذلك أصحابه بأمر يفعلون ذلك، مع كَفِّه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافر غير معاهد، بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه وبينهم، ثم من هؤلاء مَن قتل، ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعصم دمه لثلاثة أسباب:
أسباب عصمة دم بعض الذين أهدرت دماؤهم
أحدها: أنه جاء تائباً قبل القدرة عليه، والمسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائباً قبل القدرة عليه لسقط عنه، فالحربي أولى.
الثاني: أن رسول/ الله e كان من خُلُقه أن يعفو عنه.
الإسلام يجب ما قبله
الثالث: أن الحربي إذا أسلم لم يُؤْخَذ بشيء مما عمله في الجاهلية، لا من حقوق الله و لا من حقوق العباد، من غير خلاف نعلمه؛ لقوله تعالى:) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (ولقوله e: " الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَه" رواه مسلم ولقوله e: " مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَم يُؤاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ" متفق عليه.
ولهذا أسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالاً يُعرفون؛ فلم يطلب أحد منه بقَوَد ولا دية ولا كفارة.
أسلم وحشي قاتل حمزة، وابن العاص قاتل ابن قوقل، وعقبة بن الحارث قاتل خُبَيب بن عدي، ومَن لا يُحْصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم وقد علم أنه قتل رجلاً بعينه من المسلمين؛ فلم يوجب النبي e على أحدٍ منهم قصاصاً، بل قال e: " يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلين يَقْتلُ أَحدُهما الآخر، كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّة، يُقتل هَذا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَدخلُ الجَنَّة، (ثُمَ يَتُوبُ اللهُ عَلى القاتِل فَيُسْلِم وَيُقْتَل فِي سَبِيلِ الله فَيَدْخل الجَنَّة") متفق عليه.
لَمْ يضمن النبي من أسلم دماً أو مالاً أخذه وهو كافر
وكذلك أيضاً لم يُضَمِّن النبي e أحداً منهم مالاً أتلفه للمسلمين، ولا أقام على أحد حد زنى أو سرقة أو شرب أو قذف، سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر. وهذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافاً في روايته، ولا في الفتوى به.
بل لو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه ـ مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرماً في دين الإسلام ـ كان له ملكاً، ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابه بناءاً على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكاً له؛ لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله، ووجب أجره على الله، وآخِذُهُ هذا مستحيلاً له، وقد غُفر له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم، فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال،/ ولا يقضي ما تركه من العبادات؛ لأن كل ذلك كان تابعاً للاعتقاد، فلما رجع عن الاعتقاد غُفر له ما تبعه من الذنوب، فصار ما بيده من المال لا تَبِعَة عليه فيه، فلم يُؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من رِباً وغيره.
ومن العلماء من قال: يردُّه على مالكه المسلم، وهو قولُ الشافعي وأبي الخطاب من الحنبلية، بناءً على أن اغتنامَهم فعلٌ محرم؛ فلا يملكون به مال المسلم كالغصب، ولأنه لو أخذه المسلم منهم أخذاً يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم؛ لحديث ناقة النبي e وهو مما اتفق الناسُ فيما نعلمه عليه، ولو كانوا قد ملكوه كملكة الغانم منهم ولم يردَّه.
والأول أصح؛ لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكُرَاع و السلاح وغير ذلك، وقد أسلم عامة أولئك المشركين، فلم يسترجع النبي e من أحدٍ منهم مالاً، مع أن بعضَ تلك الأموال لا بد أن يكون باقياً.
¥