وكذلك في حديث أبي أمامة أن قوله تعالى:) أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيَمانِكُمْ (نزلت فيهم، وهذا مما لا خلاف فيه إذا صَرَّحوا بالطعن في الرسول والعيب عليه كفعل أولئك اللامزين له.
فإذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه e أمر بقتل مَن كان من جنس ذلك الرجل الذي لَمَزَه أينما لُقُوا، وأخبر أنهم شرُّ الخليقة، وثبت أنهم من المنافقين كان ذلك دليلاً على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلهم للقتل.
يبقى أن يقال: ففي الحديث الصحيح أنه نهى عن قتل ذلك اللامز.
فنقول: حديث الشَّعْبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم، فيشير ـ والله أعلم ـ أن يكون أمر بقتله أولاً طمعاً في انقطاع أمرهم، وإن كان قد يعفو عن أكثر المنافقين؛ لأنه خاف من انتشار هذا الفساد من بعده على الأمة، ولهذا قال: "لَو قَتَلْتَه لَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَهُم وَآخِرَهُم" وكان ما يحصل بقتله من المصلحة العظيمة أعظم مما يخاف من نفور بعض الناس بقتله، فلما لم يوجد وتعذر قتله ومع النبي e بما أوحاهُ الله إليه من العلم ما فضله/ الله به فكأنه علم أنه لا بد خُرُوجهم، أنه لا مَطْمَعَ في استئصالهم، كما أنه لما علم أن الدجال خارج لا محالة نهى عمر عن قتل ابن صَيَّاد، وقال: "إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيهِ، وإن لا يكُنْهُ فلا خَيْرَ لكَ في قتلهِ"، فكان هذا مما أَوْجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخُوَيْصِرَة لما لَمَزَه في غنائم حُنَين، وكذلك لما قال عمر: "ائذَنْ لي فأضرب عنقه، قال: "دَعْهُ فإن له أصحاباً يَحْقِرُ أحَدُكم صَلاَتَهُ معَ صَلاَتِهِم وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّين كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمِيَّةِ" إلى قوله: "يَخْرُجُونَ على حِيْنِ فُرْقَةٍ من النَّاسِ"، فأمر بتركه لأجل أن له أصحاباً خارجين بعد ذلك، فظهر أن علمه بأنهم لا بدَّ أن يخرجوا منعه من أن يَقْتل منهم أحداً فيتحدث الناسُ بأن محمداً يقتل أصحابه الذين يُصَلّون معه، وتنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثيرة، من غير مصلحة تغمر هذه المفسدة، هذا مع أنه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقاً، بأبي هو وأمي e.
وبهذا يتبين سببُ كونه في بعض الحديث يعلِّلُ بأنه يُصَلي، وفي بعضه بأن لا يتحدث الناسُ أن محمداً يقتل أصحابه، وفي بعضه بأن له أصحاباً سيخرجون، وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض هذه الأحاديث، وإن كان هذا الموضع خليقاً بها أيضاً.
فثبت أن كل مَن لَمَزَ النبي e في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما أمر به e في حياته وبعد موته، وإنه إنما عَفَا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثيرُ فائدةٍ، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد.
ومما يشهد لمعنى هذا الحديث قول أبي بكر رضي الله عنه في الحديث المشهور لما أراد أبو بَرْزَةَ أن يقتل الرجل الذي أغلظ لأبي بكر وتغيظ عليه أبو بكر وقال له أبو بَرْزَةَ أقتله؟ فقال أبو بكر: ما كانت لأحدٍ بعد رسول الله e.
فإن هذا كما تقدم دليلٌ على أن الصِّديق علم أن النبي e يُطَاع أمره في قتل مَن أمر بقتله ممن أغضب النبي e.
فلما كان في حديث الشعبي أنه/ أمر أبا بكر بقتل ذلك الذي لمزه حتى أغضبه كانت هذه القضية بمنزلة العمدة لقول الصديق، وكان قول الصديق رضي الله عنه دليلاً على صحة معناها.
كانوا يرون قتل من علموا أنه من الخوارج
و مما يدل على أنهم كانوا يَرَوْن قتل من علموا أنه من أولئك الخوارج وإن كان منفرداً حديث صَبِيغ بن عِسْل، وهو مشهور، قال أبو عثمان النَّهْدي: سأل رجلٌ من بني يَرْبوع، أو من بني تميم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات والمرسلات والنازعات، أو عن بعضهن، فقال عمر: ضَعْ عن رأسك، فإذا له وَفْرَة، فقال عمر: أما والله لو رأيتك مَحْلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، ثم قال: ثم كَتَبَ إلى أهل البصرة ـ أو قال إلينا ـ: أن لا تجالسوه، قال: فلو جاء ونحن مائةٌ تَفَرَّقْنَا، رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح.
¥