فهذا عمر يحلف بين المهاجرين والأنصار أنه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي e الخوارج لضرب عنقه، مع أنه هو الذي نهاه النبي e عن قتل ذي الخُوَيْصرة، فعلم أنه فهم من قول النبي e: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم" القتل مطلقاً، وأن العفو عن ذلك كان في حال الضعف والاستئلاف.
فإن قيل: فما الفرق بين [قول] هؤلاء اللامزين في كونه نفاقاً موجباً للكفر وحِلِّ الدَّم حتى [صار] جِنْسُ هذا القائل شرَّ الخلق، وبين ما ذكر من مَوْجِدة قريش والأنصار؟
ففي حديث أبي سعيد الصحيح أن النبي e لما قسم الذهيبة بين أربعة غضبت قريش والأنصار، وقالوا: يعطيه صناديد أهل نجدٍ ويَدَعُنا؟ فقال: "إِنما أتَأَلَّفُهُم"، فأقبل رجلٌ غائرُ العينين، وذكر حديث اللامز.
وفي رواية لمسلم: فقال رجلٌ من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي e فقال: "ألاَ تَأْمَنُونِي وأنَا أَمِيْنُ مَن فِي السَّمَاءِ؟ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحاً وَمَسَاءً) فقام رجلٌ غائر العينين. الحديث.
موجدة الأنصار على قسمة غنائم حنين
وكذلك مَوْجِدَة الأنصار في غنائم حُنين، فعن أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين ـ حين أفاء الله على رسوله من أموال هَوَازِنَ ما أفاء، فَطَفِقَ رسول الله e يُعْطِي رجالاً من قريش/ المائة من الإبل ـ فقالوا: يغفر الله لرسول الله e! يُعْطِي قُرَيشاً ويتركنا وسُيُوفُنا تَقْطُر من دمائهم!! وفي رواية: لما فتحت مَكَّةَ قَسمَ الغنائم في قريش، فقالت الأنصار: إن هذا هو العجب، إن سيوفنا تَقْطُر من دمائهم، وإن غنائمنا تُرَدُّ عليهم، وفي رواية: فقالت الأنصار: إذا كانت الشِّدَّةُ فنحن نُدْعَى ويُعْطَى الغنائم غيرنا.
جواب الرسول للأنصار بعد غضبهم
قال أنس: [فحدثت] رسول الله e ذلك من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قُبَّة من أَدَم، ولم يَدْعُ معهم غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله e فقال: "ما حديثٌ بَلَغَنِي عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار: أما ذَوُو رأينا، يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً، وأما أناسٌ منَّا حديثَةٌ أَسْنَانُهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله e يُعْطِي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تَقْطُر من دمائهم، فقال رسول الله e: " فإني أعْطِي رجالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُم، أَفَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلى رِحَالِكُم بِرَسُولِ اللهِ e، مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مما يَنْقَلِبُونَ بِهِ" قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال: "فإنكم سَتَجِدون بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللهَ وَرَسُولَهُ عَلَى الحَوْضِ" قالوا: نصبر.
الفرق بين غضب قريش والأنصار وغضب الخوارج
قيل: إن أحداً من المؤمنين من قريش والأنصار وغيرهم لم يكن في شيء من كلامه تجويرٌ لرسول الله e، ولا تجويرُ ذلك عليه، ولا اتهام له أنه حَابى في القسمة لهوى النفس وطلب الملك، ولا نسبة له إلى أنه لم يرد بالقسمة وَجْهَ الله، ونحو ذلك مما جاء مثله في كلام المنافقين.
ثم ذوو الرأي من القبيلتين ـ وهم الجمهور ـ لم يتكلموا بشيء أصلاً، بل قد رَضُوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله كما قالت فقهاء الأنصار: "أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئاً"، وإنما الذين تكلموا من أحْدَاث [الأسنان] ونحوهم فرأوا أن النبي e إنما يقسم المال لمصالح الإسلام، ولا يضعه في محل إلا لأن وَضْعَه فيه أولى من وضعه في غيره، هذا مما لا يشكون فيه.
وكان العلم بجهة/ المصلحة قد يُنالُ بالوحي وقد ينال بالاجتهاد، ولم يكونوا علموا أن ذلك مما فَعَلَه النبي e وقال: إنه بوَحْي من الله، فإن مَن كره ذلك أو اعترض عليه بعد أن يقول ذلك فهو كافر مكذب.
وجوزوا أن يكون قَسْمُه اجتهاداً، وكانوا يراجعونه في الاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين، وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة، وربما سألوه عن الأمر لا لمراجعته فيه، لكن لِيَتَبَيَّنُوا وَجْهَه، ويتفقهوا في سببه ويعلموا عِلَّتَه.
وجه مراجعة أصحاب النبي إياه، وأمثلته
فكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهين:
إما لتكميل نظره e في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مَسَاغ.
¥