وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام:
إحداهن: ما هو كفر، مثل قوله: إن هذه لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله.
الثاني: ما هو ذَنْبٌ ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رَفْعِ الصَّوت فوق صوته، ومثل مراجعة مَنْ راجعه عامَ الحُديبية بعد ثباته على الصلح، ومجادلة من جادله يوم بَدْرٍ بعد ما تبين له الحق، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
الثالث: ما ليس من ذلك، بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد، كقول عمر: ما بالنا نقْصُرُ الصَّلاةَ وقد أمِنَّا؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله:) فَأمَّا مَنْ أُوْتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِيِنْهِ (وكقول حَفْصَة: ألم يقل الله:) وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا (، وكمراجعة الحباب في منزل بدر، ومراجعة سعد في صلح غَطَفَان على نصف تمر المدينة، ومثل مراجعتهم له لما أمرهم بكسر الآنية التي فيها لحوم الحمر، فقالوا: أو لا نغسلها؟ فقال: "اغسلوها"، وكذلك رد عمر لأبي هريرة لما خرج مبشراً، ومراجعته للنبي e في ذلك، وكذلك مراجعته له لما أذن لهم في نحر الظَّهْرِ في بعض المغازي، وطلبه منه أن يجمع الأزواد ويدعو الله، ففعل ما أشار به عمر، ونحو ذلك مما فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عَرْض لمصلحةٍ قد يفعلها الرسول e.
فهذا ما اتفق ذكره من السنن المأثورة عن النبي e في قتل من سَبَّه من مُعاهد وغير مُعَاهد، وبعضها نصٌّ في المسألة، وبعضها ظاهر، وبعضها مستنبط مستخرج استنباطاً قد يَقْوَى في رأي مَن فَهِمَه وقد يتوقف عنه من لم يفهمه أو مَن لم يتوجَّه عنده، أو رَأى أن الدلالة منه ضعيفة، ولن يخفى الحقُّ على من توخاه و قصده، ورزقه الله بصيرة وعلماً، والله سبحانه أعلم.
فصل
الاستدلال بإجماع الصحابة
و أما إجماعُ الصحابة رضي الله عنهم فلأنَّ ذلك نُقِلَ عنهم في قضايا متعدِّدة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم؛ فصارت إجماعاً، واعلم أنه لا يمكن/ إدِّعاء إجماع الصحابة على مسالة فَرْعية بأبْلَغَ من [هذا] الطريق.
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب "الردة والفتوح" عن شيوخه، قال: ورفع إلى المهاجر ـ يعني المهاجر بن أبي أمية، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها ـ امرأتان مغنيتان غَنَّت إحداهما بشَتْم النبي e، فَقَطع يدها، ونَزَع [ثَنيتها]، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يَدَها، ونزع ثنيتها، فكتب أبو بكر: بَلَغني الذي [سرت] به في المرأة التي تغنَّت وزمرت بشتم النبي e، فلولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بِقَتْلِهَا؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يشبه الحدود؛ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتدٌّ أو معاهدٍ فهو محارب غادر.
وكتب إليه أبو بكر في التي تَغَنَّتْ بهجاء المسلمين: أما بعد فإنه بلغني أنك قطعت يَدَ امرأة في أن تَغَنَّت بهجاء المسلمين ونزعت ثَنِيِّتَهَا، فإن كانت ممن تدعي الإسلام فأدب وتقدمة دون المُثْلَة، وإن كانت ذِمِيَّةٍ فلعمري لَمَا صفحت عنه من الشرك أعظم، ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك، فاقبل الدَّعَةَ، وإياك والمُثْلَة في الناس فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.
وقد ذكر هذه القصة غيرُ سيف، وهذا يوافق ما تقدم عنه أن مَن شَتم النبي e كان له أن يقتله، وليس ذلك لأحد بعده، وهو صريح في وجوب قَتْل من سَبَّ النبي e من مسلم ومعاهد وإن كان امرأة، وأنه يُقْتَل بدون استتابة، بخلاف من سبَّ الناس، وأن قتله حد للأنبياء كما أن جلدَ من سَب غيرهم حدٌّ له، وإنما لم يأمر أبو بكر بقَتْل تلك المرأة لأن المهاجِرَ سبق منه فيها حدٌّ باجتهاده، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمع عليها حَدَّيْن، مع أنه لعلها أسلمت أو تابت فقبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر، وهو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره أبو بكر؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد، وكلامه يدلُّ على أنه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر.
وروى حَرْبٌ في مسائله عن لَيْث بن أبي سُلَيم عن مجاهد قال: أُتي عُمَرُ برَجُل سَبَّ النبي e، فقتله، ثم قال عمر: مَنْ سَبَّ الله أو سب أحداً من الأنبياء فاقتلوه، قال ليث: وحدثني مجاهد عن ابن عباس قال: أيما مسلم سب الله أو سب أحداً من الأنبياء فقد كَذَّبَ برسول الله e، وهي رِدَّةٌ، يُسْتتاب فإنْ رَجَع وإلا قُتِلَ، وأيما معاهدٍ عاند فسب الله أو سبّ أحداً من الأنبياء أو جهر به فقد نَقَضَ العهد فاقتلوه.
¥