وعن أبي مشجعة بن ربعي قال: لما قَدِمَ عمر بن الخطاب الشام قام قُسْطَنْطِينُ بَطْرِيقُ الشام، وذكر معاهدة [عمر] له وشروطه عليهم، قال: اكْتُبْ بذلك كتاباً، قال عمر: نعم، فبينا هو يكتب الكتاب إذ ذكر عمر فقال: إني أستثني عليك مَعَرَّةَ الجيش مرتين، قال: لك ثُنْيَاك وقَبَّحَ الله من أقَالَكَ، فلما فرغ عمر من الكتاب قال له: يا أمير المؤمنين قُمْ في الناس فأخبرهم الذي جَعَلتَ لي، وفَرضْتَ عليّ؛ ليتناهَوْا عن ظُلْمي، قال عمر: نعم، فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، مَن يَهْدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له، فقال النبطي: إن الله لا يُضِلُّ أحداً، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: لا شيء، وأعاد النبطيُّ لمقالته، فقال: أخبرني ما يقول، قال: تزعم أن الله لا يُضِلُ أحداً، قال عمر: إنا لم نُعْطِك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا، والذي نفسي بيده، لئن عُدت لأضربنَّ الذي فيه عيناك، وأعاد عمر ولم يَعُدِ النبطيُّ، فلما فرغ عمر أخذ النبطيُّ الكتاب، رواه حرب.
فهذا عمر رضي الله عنه بمَحْضرٍ من المهاجرين والأنصار يقول لمن عاهده: إنا لم نُعطِكَ العهد على أن تدخل علينا في ديننا، وحلف لئن عاد ليضربَنَّ عنقه؛ فعلم بذلك إجماع الصحابة على أن أهل العهد ليس لهم أن يُظهروا الاعتراضَ علينا في ديننا، وأن ذلك منهم مُبِيحٌ لدمائهم.
وإن من أعظم الاعتراض سَبَّ نبينا e، وهذا ظاهر لا خَفَاء به؛ لأن إظهار التكذيب بالقَدر من إظهار شتم النبي e.
و إنما لم يقتله عمر لأنه لم يكن قد تقرر عنده أن هذا الكلام طَعْنٌ في ديننا؛ لجواز أن يكون اعتقد أن عمر قال ذلك من عنده، فلما تقدم إليه عمر وبَيَّنَ له أن هذا ديننا قال له: لئن عُدْت لأقتلنك.
ومن ذلك ما استدل به الإمام أحمد، ورواه عن هشيم: ثنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر قال: مرَّ به رَاهبٌ، فقيل له: هذا يسبُّ النبي e، فقال عمر: لو سمعتهُ/ لقتلتهُ، إنا لم نعطهم الذِّمَّة على أن يسبوا نبينا e.
ورواه أيضاً من حديث الثوري عن حصين عن شيخ أن ابن عمر أَصْلَتَ على راهِبٍ سَبَّ النبي e بالسيف وقال: إنا لم نصالحهم على سَبِّ النبي e.
والجمع بين الروايتين أن يكون ابن عمر أصْلَتَ عليه السيفَ لعلَّه يكون مقراً بذلك، فلما أنكر كفَّ عنه، وقال: لو سمعتُه لقتلته، وقد ذكر حديثَ ابن عمر غيرُ واحدٍ.
وهذه الآثار كلها نصٌّ في الذمي والذمية، وبعضها عام في الكافر والمسلم أو نص فيهما.
(وقد تقدَّم حديثُ الرجل الذي قَتَلَهُ عمر من غير استتابة حين أبى أن يرضى بحكم النبي e؛ وحديث كَشْفه عن رأس صَبِيْغ بن عسل وقوله: "لو رأيتك مَحْلُوقاً لضربت الذي فيه عيناك"، من غير استتابة، وإنما ذنب طائفته الاعتراضُ على سنة الرسول e.)
وقد تقدَّم عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:) إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ (الآية: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي e [ خاصة] ليس فيها توبة، ومَنْ قَذَفَ امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، وقال: نزلت في عائشة خاصة، واللعنة للمنافقين عامة، ومعلوم أن ذلك إنما هو لأن قَذْفَهَا أذى للنبي e ونفاق، والمنافق يجب قتله إذا لم تقبل توبته.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن سِمَاكِ بن الفَضْل عن عُرْوَة بن محمد عن رجل من بَلْقين أن امرأة سَبَّتِ النبي e، فقتلها خالد بن الوليد وهذه المرأة مُبْهَمَة.
وقد تقدم حديثُ محمد بن مَسْلَمة في ابن يامين الذي زَعَم أن قتل كَعْب بن الأشرف كان غَدْراً، وحلف محمد بن مسلمة لئن وَجَدَه خالياً ليقتُلَنَّه؛ لأنه نسب النبي e إلى الغَدْر، ولم ينكر المسلمون عليه ذلك.
ولا يرد على [ذلك] إمساك الأمير ـ إما معاوية، أو مروان ـ عن قتل هذا الرجل؛ لأن سكوته لا يدل على مذهب، وهو لم يخالف محمد بن مَسْلمة، ولعل سكوته لأنه لم ينظر في حكم هذا الرجل، أو نظر فلم يتبين/ له حُكمه، أو لم تنبعث داعيته لإقامة الحد عليه، أو ظن أن الرجل قال ذلك معتقداً أنه قُتِلَ بدون أمر النبي e، أو لأسباب أخَرَ.
¥