وبالجملة فمجرد كفه لا يدلُّ على أنه مخالف لمحمد بن مَسْلمة فيما قاله، وظاهر القصة أن محمد بن مَسْلمة رآه مخطئاً بترك إقامة الحد على ذلك الرجل، ولذلك هَجَرَه، لكن هذا الرجل إنما كان مسلماً؛ فإن المدينة لم يكن بها يومئذٍ أحدٌ من غير المسلمين.
ما عاهدنا عليه أهل الذمة
وذكر ابن المبارك: أخبرني حَرْملة بن [عمران] حدثني كعب ابن علقمة أن غَرَفة بن الحارث الكِنْدي ـ وكانت له صحبة من النبي e ـ سمع نصرانياً شَتَمَ النبي e، فضربه فدقَّ أنفه، فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص، فقال له: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال له غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يُظْهرُوا شتم النبي e، وإنما أعطيناهم العهد على أن نُخَلِّي بينهم وبين كنائسهم يعملون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم على ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو قَاتَلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله e، وإن غيبوا عنا لم نعرِض لهم، فقال عمرو: صدقت.
فقد اتفق عمرو وغَرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول e، كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب! فمتى أظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم، من غير عهد عليه فيجوز قتلهم، وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي e: " لو سمعته لقتلته، فإنا لم نعطهم العهد على أن يسبُّوا نبينا".
وإنما لم يقتل هذا الرجل ـ والله أعلم ـ لأن البينة لم تقم عليه بذلك، وإنما سمعه غرفة، ولعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة، ولم يمكن من إتمام قتله لعدم البينة بذلك، ولأن فيه افتئاتاً على الإمام، والإمام لم يثبت عنده ذلك.
رأي عمر بن عبد العزيز
و عن خُلَيْد أن رجلاً سب عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: "إنه لا يُقتل إلا من سب رسول الله e، ولكن اجلده على رأسه أسواطاً، ولولا أني أعلم أن ذلك خيرٌ له لم أفعل" رواه حرب وذكره الإمام أحمد، و هذا مشهور عن عمر بن/ عبدالعزيز، وهو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها.
فهذا قول أصحاب رسول الله e، والتابعين لهم بإحسان، لا يعرف عن صاحبٍ ولا تابعٍ خلافٌ لذلك، بل إقرارٌ عليه، واستحسان له.
الاستدلال بالقياس
وأما الاعتبار فمن وجوه:
أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبيا مجاهدةٌ لنا ومحاربة؛ فكان نقضاً للعهد كالمجاهدة والمحاربة باليد وأَوْلَى.
يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه:) وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ (.
والجهاد بالنفس يكون كما يكون باليد، بل قد يكون أقوى منه؛ قال النبي e: " جَاهِدُوا المُشْرِكِيْنَ بِأَيْدِيْكُمْ وَأَلْسِنَتْكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ" رواه النسائي وغيره.
وكان ? يقول لحسان بن ثابت: "اغْزُهُمْ وغَازِهِمْ" وكان ينصب له منبراً في المسجد ينافح عن رسول الله e بشِعره وهجائه للمشركين. وقال النبي e: " اللّهم أَيّدْهُ بِرُوح القُدُس" وقال: "إِنَّ جِبْرِيْلَ مَعَكَ مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَن رَسُوْلِهِ" وقال: "هِيَ أَنْكَى فِيهم مِنَ النَّبْلِ".
وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان، حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدةٍ فيخرجونه من عندهم، حتى لم يبق له بمكة من يؤويه.
وفي الحديث: "أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقِّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ"، و"أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدالمُطَّلِب، وَرَجُلٌٌ تَكَلَّمَ بِحَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ".
وإذا كان شأن الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين وهجائهم وإظهار دين الله والدعاء إليه عُلم أن من شتم دين الله ورسوله، وأظهر ذلك، وذكر كتاب الله بالسوء علانيةً، فقد جاهد المسلمين وحاربهم، وذلك نقض للعهد.
¥