الوجه الثاني: إنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة، وإرادة السوء بنا، وتَمنِّي الغوائل لنا، فإنا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا، ويريدون سفك دمائنا، وعلو دينهم، ويسعون في ذلك لو قدروا عليه؛ فهذا/ القدر أقررناهم عليه، فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة ـ بأن حاربونا وقاتلونا ـ نقضوا العهد، كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة ـ من إظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله ـ نقضوا العهد؛ إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة وموجب الاعتقاد.
الوجه الثالث: أن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا، وشتم رسولنا، كما يقتضي الإمساك عن سفك دمائنا ومحاربتنا؛ لأن معنى العهد أن كل واحدٍ من المتعاهدين يؤمِّنُ الآخر مما يحذره منه قبل العهد، ومن المعلوم أنا نحذر منهم من إظهار كلمة الكفر وسب الرسول أو شتمه، كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى؛ لأنا نسفك الدماء ونبذل الأموال في تعزير الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره، وهم جميعاً يعلمون هذا من ديننا، فالمظهر منهم لسبه ناقضٌ للعهد، فاعل لما كنا نحذره منه ونقاتله عليه قبل العهد، وهذا بين واضح.
الوجه الرابع: أن العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر بن الخطاب وأصحاب رسول الله e معه قد بين فيه ذلك، وسائر أهل الذمة إنما جَرَوْا على مثل ذلك العهد.
شروط المسلمين على أهل الذمة
فروى حرب بإسناد صحيح عن عبدالرحمن بن غَنْم قال: كتب عمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام: هذا كتاب لعبد الله [عمر] أمير المؤمنين من مدينة كذا وكذا، إنكم لما قَدِمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا على أن لا نُحْدِث ... ـ وذكر الشروط إلى أن قال: ـ ولا نظهر شركاً، ولا ندعو إليه أحداً؛ وقال في آخره: شرطنا ذلك على أنفسنا وأهلينا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خَالَفْنَا عن شيء شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق.
وقد تقدم قول عمر له في مجلس العقد: "إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا، والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن عنقك"، وعمر صاحب الشروط عليهم.
فعلم المسلمون بذلك أن شرط المسلمين عليهم أن لا يظهروا/ كلمة الكفر، وأنهم متى أظهروها صاروا محاربين، وهذا الوجه يوجب أن يكون السب نقضاً للعهد عند من يقول: لا ينتقض العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه، كما خرجه بعض أصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين.
وكذلك يوجب أن يكون نقضاً للعهد عند من يقول: إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض، كما ذكره بعض أصحاب الشافعي؛ فإن أهل الذمة إنما هم جارون على شرط عمر؛ لأنه لم يكن بعده إمام عقد عقداً يخالف عقده، بل كل الأئمة جارون على حكم عقده، والذي ينبغي أن يضاف إلى من خالف في هذه المسألة أنه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب، فإن الخلاف حينئذٍ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط وجريانه على وفق الأصول، فإذا كان الأئمة قد شرطوا عليهم ذلك ـ وهو شرط صحيح ـ لزم العمل به على كل قول.
الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام، وعلى أنهم أهل صغار وذلة، على هذا عوهدوا وصولحوا، فإظهار شتم الرسول e أو الطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار وذلة، فإن من أظهر سب الدين والطعن فيه لم يكن من الصغار في شيء، فلا يكون عهده باقياً.
الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره، وتعزيرهُ: نصره ومنعه، وتوقيره: إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أولى درجات التعزير والتوقير؛ فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة على أن يسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك، فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزير والتوقير، وهم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك، بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق، وعلى ذلك عاهدناهم، فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم.
¥