وقال أيضاً): كانت اليهود تقول للنبي e: راعنا سمعك، يستهزئون بذلك، وكانت في اليهود قبيحة.
وروى الإمام أحمد عن عطية قال: "كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود".
وقال عطاء الخراساني: كان الرجل يقول: أرعني سمعك، ويلوي بذلك لسانه، ويطعن في الدين.
وذكر بعض أهل التفسير أن هذه اللفظة كانت سباً قبيحاً بلغة اليهود.
فهؤلاء قد سبوه بهذا الكلام، ولَوَّوا ألسنتهم به و استهزؤوا به، وطعنوا في الدين، ومع ذلك فلم يقتلهم النبي e.
قلنا عن ذلك أجوبة:
الأجوبة عن الاعتراض الثالث
أحدها: أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله رسوله والمؤمنين أنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيراً، وأمرهم بالصبر والتقوى، ثم إن ذلك نُسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والصاغر لا يفعل شيئاً من الأذى في الوجه، ومن فعله فليس بصاغر.
ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخاً؛ لتغير الحكم، ومنهم من [لا يسميه] نسخاً؛ لأن الله تعالى أمرهم بالعفو و الصفح إلى أن يأتي الله بأمره، وقد أتى الله بأمره من عِزِّ الإسلام وإظهاره، والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وهذا مثل قوله تعالى:) فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يتَوفَّاهُن/ المَوتُ أَو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ((وقال النبي e: " قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً")، فبعض الناس يسمي ذلك نسخاً، وبعضهم لا يسميه نسخاً، والخلاف لفظي.
ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باقٍ عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال، بأن يكون في وقتٍ أو مكانٍ لا يتمكن منه، وذلك لا يكون منسوخاً؛ إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة.
وبالجملة فلا خلاف أن النبي e كان مفروضاً عليه لما قَوِيَ أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم، سمي نسخاً أو لم يُسَمَّ.
الجواب الثاني: أن النبي e قد كان له أن يعفو عمن سبه، وليس للأمة أن تعفو عمن سبه، كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين، مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين.
الجواب الثالث: أن هذا ليس بإظهارٍ للسب، وإنما هو إخفاء له، بمنزلة "السام عليكم"، وبمنزلة ظهور النفاق في لحن القول، لأنهم كانوا يظهرون أنهم يقصدون مسألته أن يسمع كلامهم، وأن يُرَاعيهم، فينظرهم حتى يَقْضُوا كلامهم وحتى يفهموا كلامه، ويأتونه على هذا الوجه، ثم إنهم يَلْوُون ألسنتهم بالكلام وَيَنْوون به الاستهزاء والسَّبَّ والطعن في الدين، كما يلوون ألسنتهم بالسلام وينوون به الدعاء عليه بالموت، واليهود أمةٌ معروفة بالنفاق والخبث، وأن تظهر خلاف ما تبطن، ولكن ذلك لا يوجب إقامة حد عليهم.
ولو كان هذا [سباً] ظاهراً لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير، حتى نُهُوا عن التكلم بكلامٍ يحتمل الاستهزاء ويوهمه، بحيث يصير سباً بالنية ودلالة الحال.
وذلك أن هذه الفظة كانت العربُ تتخاطب بها تقصد [سباً]، قال عطاء: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية؛ وقال أبو العالية: "إن مشركي العرب كانوا إذا حدَّث بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه: أرعِني سَمْعَكَ، فنهوا عن ذلك" وكذلك قال الضحاك، وذلك أن العرب/ تقول: أرْعَيْته سمعي إرعاء، إذا فَرَّغْتَه لكلامه؛ لأنك جعلت السمع يرعى كلامه، وتقول: "راعيته سمعي" بهذا المعنى، لكن كانت اليهود تعتقدها سباً بينها: إما لما فيها من الاشتراك، فإنها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعلة كأنه قيل: راعني حتى أراعيك، وهذا إنما يكون بين الأمثال والنظراء، ومرتبة الرئيس أعلى من ذلك.
أو أن اليهود ينوون بها معنى الرُّعُونَةِ، أو فيها طلب حفظ الكلام والاهتمام به، وهذا إنما يكون من الأعلى للأسفل، لأن الرعاية هي الحفظ والكَلاءة، ومنه اسْتِرعَاء الشهادة.
¥