أما إن كان مسلماً فبالإجماع؛ لأنه نوع من المرتد، أو من الزنديق، والمرتد يتعين قتله، وكذلك الزنديق، وسواء كان رجلاً أو امرأة، وحيث قَتل يُقتل مع الحكم بإسلامه، فإن قتله حدٌّ بالاتفاق، فيجب لإقامته، وفيما قدمناه دلالة واضحة على قتل السابة المسلمة من السنة وأقاويل الصحابة، فإن في بعضها تصريحاً بقتل السابة المسلمة، وفي بعضها تصريحاً بقتل السابة الذمية، وإذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه.
ومن قال من أهل الكوفة: "إن المرتدة لا تُقتل" فقياس مذهبه أن لا تُقْتَل السابة؛ لأن الساب عنده مرتد، وقد كان يحتمل مذهبه أن تقتل السابة حداً كقتل الساحرة عند بعضهم وقتل قاطعة الطريق، ولكن أصوله تأبى ذلك.
والصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة، فالسابة أولى، وهو الصحيح لما تقدم، وإن كان الساب معاهداً فإنه يتعين أيضاً قتله، سواء كان رجلاً أو امرأة، عند عامة الفقهاء من السلف ومَن تبعهم.
وقد/ ذكرنا قول ابن المُنْذِرِ فيما يجب على من سب النبي e قال: أجمع عوامُّ أهل العلم على أن من سب النبي e القتل، وممن قاله مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.
قال: وحُكي عن النعمان: لا يقتل من سبه من أهل الذمة، وهذا اللفظ دليلٌ على وجوب قتله عند العامة، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وسائر فقهاء المدينة، وكلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين:
أحدها: انتقاض عهده.
والثاني: أنه حدٌّ من الحدود، وهو قول فقهاء الحديث.
قال إسحاق بن رَاهُوْيَه: إن أظهروا سَبّ رسول الله e فسُمِعَ منهم ذلك أو تُحُقِّق عليهم قُتِلوا، وأخطأ هؤلاء الذين قالوا: "ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله e" قال إسحاق: يقتلون؛ لأن ذلك نقض العهد، وكذلك فَعل عمر بن عبدالعزيز، ولا شبهة في ذلك؛ لأنه يصير بذلك ناقضاً للصلح، وهو كما قَتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي e، وقال: "ما على هذا صالحناهم".
وكذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده، وقد تقدم بعض نصوصه في ذلك، وكذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب، ذكروه بخصوصه في مواضع هكذا، وذكروه أيضاً في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة.
ثم المتقدمون منهم وطوائف من المتأخرين قالوا: إن هذا وغيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد.
وذكر طوائف منهم أن الإمام أحمد مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة، كما يخير في الأسير بين الاسترقاق والقتل والمن والفداء، ويجب عليه فعل الأصلح للأمة من هذه الأربعة بعد أن ذكروه في الناقضين للعهد، فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام وإطلاقه، وأوجب أن يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد، لكن قَيَّد محققو أصحاب هذه الطريقة ورؤوسهم ـ مثل القاضي أبي يعلى في كتبه المتأخرة وغيره ـ هذا الكلام، وقالوا: التخيير في غير ساب الرسول e،/ وأما سابه فيتعين قتله، وإن كان غيره كالأسير، وعلى هذا فإما أن لا يُحكى في تعين قتله خلاف؛ لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بأن الساب يتعين قتله، وصرح رأس أصحاب هذه الطريقة بأنه مستثنى من ذلك الإطلاق، أو يحكى فيه وجه ضعيف؛ لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر.
واختلف أصحاب الشافعي أيضاً فيه؛ فمنهم من قال: يجب قتل الساب حتماً، وإن خُيّر في غيره.
ومنهم من قال: هو كغيره من الناقضين للعهد، و [فيه] قولان: أضعفهما أنه يلحق بمأمنه، والصحيح منهما جواز قتله، قالوا: ويكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح للأمة من القتل والاسترقاق والمن والفداء.
وكلام الشافعي في موضع يقتضي أن حكم الناقض للعهد حكم الحربي؛ فلهذا قيل: إنه كالأسير، وفي موضع آخر أمر بقتله عيناً من غير تخيير.
مقدمة مهمة في مسألة نقض العهد
وتحرير الكلام في ذلك يحتاج إلى [أن] نقدم مقدمة في ما ينتقض به العهد، وفي حكم ناقض العهد على سبيل العموم، ثم نتكلم في خصوص مسألة السب.
الجزء الأول من المقدمة
أما الأول فإن ناقض العهد قسمان: ممتنع لا يقدر عليه إلا بقتال، ومن هو في أيدي المسلمين.
القسم الأول من ناقضي العهد
¥