أما الأول فأن يكون لهم شوكة ومنعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبة عليهم، دون ما يظلمهم به الولاة، أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها؛ فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع.
مذهب الإمام أحمد
فإذا أُسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا أُسروا، يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح.
الرواية الأولى عن الإمام أحمد
قال في رواية أبي الحارث ـ وقد سُئل عن قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم ـ قال أحمد: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغاً فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أُسروا، فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى، وأما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد، ومن كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شيء، وذلك أن امرأة عَلْقَمة بن عُلاثة قالت: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد، وكذلك روي عن الحسن فيمن نقض العهد: ليس على النساء شيء.
قال في رواية صالح ـ وقد سئل/ عن قوم من أهل العهد في حصن ومعهم مسلمون، فنقضوا العهد، والمسلمون معهم في الحصن: ما السبيل فيهم؟ ـ قال: "ما وُلد لهم بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يُسْبَون، ومن كان قبل ذلك لا يُسْبَون".
فقد نص على أن ناقض العهد إذا أُسر بعد المحاربة يخير الإمام فيه، وعلى أن الذرية الذين ولدوا بعد نقض العهد بمنزلة من نقض العهد يُسْبَون، فعلم أن ناقض العهد يجوز استرقاقه، وهذا هو المشهور من مذهبه.
الرواية الثانية عن الإمام أحمد
وعنه: أنهم إذا قدر عليهم فإنهم لا يُسْتَرقُّون، بل يردون إلى الذمة، قال في رواية أبي طالب ـ في رجل من أهل العهد لحق بالعدو هو وأهله وولده، ووُلِد له في دار العدو، قال: يسترق [أولادهم] الذين ولدوا في دار العدو، ويردون هم وأولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام إلى الجزية، قيل له: لا يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام؟ قال: لا، قيل له: فإن كانوا أدخلوهم صغاراً ثم صاروا رجالاً، قال: لا يسترقون، أدخلوهم مأمنهم.
وكذلك قال في رواية ابن إبراهيم ـ وقد سأله عن رجل لحق بدار الحرب هو وأهله ووُلِد له في بلاد العدو وقد أخذه المسلمون ـ قال: ليس على ولده وأهله شيء، ولكن ما ولد له وهو في أيديهم يسترقون، ويردون هم إلى الجزية.
فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية [هو] وولده الذين كانوا موجودين، وأنهم لا يسترقون، وأن ولده الذين حَدَثوا بعد المحاربة يسترقون، وذلك لأن صغار ولده سبي من أولاد أهل الحرب، وهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي، فلا يدخلون في عقد الذمة أولاً ولا آخراً، وأما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة.
فعلى الرواية المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا أُسروا، فيفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قتلٍ واسترقاقٍ ومنٍّ وفداء، وإذا جاز أن يمُنَّ عليهم جاز أن يطلقهم على قبول الجزية منهم وعقد الذمة لهم ثانياً، لكن لا يجب عليه ذلك، كما لا يجب عليه في الأسير الحربي الأصلي إذا كان كتابياً، وقد قَتَل رسول الله e أسرى بني قريظة وأسرى من أهل خيبر، ولم يَدْعُهُم إلى إعطاء الجزية، ولو دعاهم إليها لأجابوه.
وعلى الرواية الثانية يجب دعاؤهم/ إلى العودة إلى الذمة كما كانوا، كما يجب دعاء المرتد إلى أن يعود إلى الإسلام، أو يستحَب كما يستحَب دعاء المرتد، ومتى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد وقبول الجزية من الحربي الأصلي إذا بذلها قبل الأسر، ومتى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم، جعلاً لنقض الأمان كنقض الإيمان ولو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته.
قول أشهب صاحب مالك
وبنحو هذا من هذه الرواية قال أشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء، قال: لا يعود الحر [قِنّاً]، ولا يسترق أبداً بحال، بل يردون إلى ذمتهم بكل حال.
مذهب الشافعي
وكذلك قال الشافعي في "الأم" ـ وقد ذكر نواقض العهد وغيرها ـ قال: "وأيهم قال أو فعل شيئاً مما وصفته نقضاً للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولاً، وكذلك إذا كان ذلك فعلاً لم يقتل، إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حداً أو قصاصاً، فيقتل بحدٍّ أو قصاصٍ لا بنقض عهد.
¥