وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يُسْلم ولكنه قال: "أَتُوبُ وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل، إلا أن يكون قد فعل فعلاً يوجب القصاص أو الحد، فإن فعل أو قال مما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي جزيةً" قتل، وأخذ ماله فيئاً".
فقد نص على أن وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها وهو في أيدينا، وأنه إذا امتنع منها ومن الإسلام قتل وأخذ ماله، ولم يخير فيه.
ولأصحابه في وجوب قبول الجزية من الأسير الحربي الأصلي وجهان.
الرواية الثالثة عن الإمام أحمد
وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أنهم يصيرون رقيقاً إذا أُسروا.
وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا أسر الروم من اليهود، ثم ظهر المسلمون عليهم فإنهم لا يتبعونهم، وقد وجبت لهم الجزية، إلا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك.
مذهب مالك
وهذا هو المشهور من مذهب مالك، قال ابن القاسم وغيره من المالكية: "إذا خرجوا ناقضين للعهد، ومنعوا الجزية، وامتنعوا منَّا من غير أن يظلموا، ولحقوا بدار الحرب، فقد انتقض عهدهم، وإذا انتقض عهدهم ثم أسروا فهم فيء، ولا يردون إلى ذمتنا.
فأوجبوا استرقاقهم، ومنعوا أن يُعقد لهم الذمة ثانياً، كأنه جعل خروجهم من الذمة مثل/ ردة المرتد يمنع إقراره بالجزية، لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصلياً.
مذهب أبي حنيفة
وقال أصحاب أبي حنيفة: مَن نقض العهد فإنه يصير كالمرتد، إلا أنه يجوز استرقاقه، والمرتد لا يجوز استرقاقه.
حكم ناقض العهد الممتنع إذا بذل الجزية
فأما إن لم يُقْدَر عليهم حتى بذلوا الجزية وطلبوا العَوْدَ إلى الذمة فإنه يجوز عَقْدُها لهم؛ لأن أصحاب رسول الله e عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد أن نقضوا العهد، والقصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام، وما أحسب في هذا خلافاً، فإن مالكاً وأصحابه قالوا: إذا منعوا الجزية وقاتلوا المسلمين والإمام عدل فإنهم يقاتلون حتى يردوا إليه، مع أن المشهور عندهم أن الأسير منهم لا يرد إلى الذمة، بل يكون فيئاً، فإذا كان مالك لا يخالف في هذه المسألة فغيره أولى أن لا يخالف فيها؛ لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة.
فإن بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الأصلي؟ إن قلنا: إنه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى، وإن قلنا: لا يجب هناك فيتوجه أن لا يجب هنا أيضاً؛ لأن بني قينقاع لما نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي e أراد قتلهم حتى ألحّ عليه عبدالله بن أُبيّ في الشفاعة فأجلاهم إلى أَذْرِعَات، ولم يُقِرَّهم بالمدينة، مع أن القوم كانوا حِرَاصاً على المقام بالمدينة بعهدٍ يجددونه، وكذلك بنو قريظة لما حاربت أرادوا الصلح والعود إلى الذمة، فلم يجبهم النبي e حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكذلك بنو النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم فأنزلهم على الجلاء من المدينة، مع أنهم كانوا أحرص شيء على المقام بدارهم بأن يعودوا إلى الذمة، وهؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي e على أن الدار دار الإسلام يجري فيها حكم الله ورسوله، وأنه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين ومن هؤلاء المعاهدين مِن حَدَث فأمره إلى النبي e، هكذا في كتاب الصلح، فإذا كانوا نقضوا العهد فبعضاً قَتل وبعضاً أَجْلى، ولم يقبل منهم ذمة ثانية مع حرصهم/ على بذلها، علم أن ذلك لا يجب، ولا يجوز أن يكون ذلك، لكون أرض الحجاز لا يُقَر فيها أهل دينين، ولا يُمَكَّن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد، بل قد تُوُفّي رسول الله e ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة، وبالمدينة غيره من اليهود، وبخيبر خلائق منهم، وهي من الحجاز، ولكن عَهِد النبي e في مرضه أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأن لا يبقى بها دينان، فأنفذ عهده في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الفرق بين الناقض والمرتد
¥