ثم إن القاضي في "الخلاف" قال: حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي، يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء: القتل، والاسترقاق، والمنّ، والفداء، لأن الإمام أحمد/ قد نصَّ في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء وحكم هذا الأسير؛ لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان، قال: ويحمل كلام الإمام أحمد على القتل إذا رآه الإمام صلاحاً، واستثنى في"الخلاف" وهو الذي صنفه آخراً في ساب النبي e خاصةً، قال: فإنه لا تقبل توبته، ويتحتم قتله، ولا يخير الإمام في قتله وتركه؛ لأن قذف النبي e حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف ا لآدمي.
وقد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد وتعليله، حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم، قال: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغاً فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أُسِروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى، وعلى هذا القول: فللإمام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك، كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي.
مذهب الإمام الشافعي فيمن نقض العهد
وهذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي [الإمام] الشافعي، والقول الآخر للشافعي: أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه، ثم من أصحابه من استثنى سب النبي e خاصة، فجعله موجباً للقتل حتماً دون غيره، ومنهم من عمم الحكم، هذا هو الذي ذكره أصحابه، وأما لفظه فإنه قال في "الأم": "إذا أراد الإمام أن يكتب كتابَ صلحٍ على الجزية كتب ـ وذكر الشروط، إلى أن قال ـ: وعلى أن أحداً منكم إن ذكر محمداً e أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونُقِض ما أُعطِي من الأمان، وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحمل أموال أهل الحرب ودماؤهم، وعلى أن أحداً من رجالهم إن أصاب مسلمةً بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلماً عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيوائهم لعيونهم فقد نقض عهده، وأحل دمه وماله، وإن نال مسلماً بما دون هذا في ماله أو عرضه ... لزمه فيه الحكم".
ثم قال: "فهذه الشروط اللازمة إن رضيها، فإن لم يرضها فلا عقد له ولا جزية".
ثم قال: "وأيهم/ قال أو فعل شيئاً مما وصفته نقضاً للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولاً، وكذلك إذا كان فعلاً لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أنَّ مَن فعله قُتل حداً أو قصاصاً، فيقتل بحد أو قصاص، لا نقض عهد، وإن من فعل مما وصفنا وشُرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل، إلا أن يكون فَعَل فِعلاً يوجب القصاص أو الحد، أما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل.
قال: "فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول: "أُسلم أو أُعطي جزية" قُتل، وأُخذ ماله فيئاً"، وهذا اللفظ يعطي وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام والعود إلى الذمة.
وسلك أبو الخطاب في "الهداية" والحُلْوَاني وكثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها، وهو الصواب، فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عيناً فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام وجعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق بدار الحرب، ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير، ونص هنا على أن على الإمام أن يَقتل، ولا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقاً مخالف لها.
مذهب الإمام أبي حنيفة
وأما أبو حنيفة فلا تجيء هذه المسالة على أصوله؛ لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة ومَنَعة فيمتنعون بذلك على الإمام، ولا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم.
مذهب الإمام مالك
ومذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا مانعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب، لكن مالكاً يوجب قتل ساب الرسول e عيناً ونحوه، وقال: إذا استكره الذمي مسلمة على الزنى قتل إن كانت حرة، وإن كانت أمةً عوقب العقوبة الشديدة، فمذهبه إيجاب القتل عيناً لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين.
الرد على من قال: إنَّهُ يرد إلى مأمنه
¥