كان حراماً لأنكره النبي e كما أنكر قتل المرأة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه وإن لم تكن مضمونة بدية ولا كفارة؛ فإنه e لا يسكت عن إنكار المنكر، بل إقراره دليل على الجواز والإباحة، علم أن السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة؛ لأن تلك لا يجوز قتلها، وعلم أن السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالإجماع إذا قَطَعت الطريق وقتلت فيه، وإذا زنت، وكما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء.
هل قتل السابة ينافي النهي عن قتل النساء؟
فإن قيل: يجوز أن يكون سبها للنبي e بمنزلة قتالها، والمرأة إذا قاتلت وكانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك، ويجوز [أن] تكون حينئذٍ بمنزلة المرأة المقاتلة إذا أسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا أسر.
الجواب عنه
قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذه المرأة لم يصدر عنها إلا مجرد شتم النبي e بحضرة سيدها المسلم، ولم تحض أحداً من المشركين على القتال، ولا أشارت على الكفار برأي تُعين به على قتال المسلمين، ومعلوم أن من لم يقاتل بيده ولا أعان على القتال بلسانه لم يجز أن ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه، ونحن لا ننكر أن من لا يجوز قتله كالراهب والأَعمى والشيخ الفاني والمقعد ونحوهم إذا كان لهم رأي في القتال وكلام يعينون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين، لكن مجرد سب المرأة لرسول الله e عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل، وإنما هو أذى لله ولرسوله أبلغ من القتال من بعض الوجوه، فلو لم يكن موجباً للقتل لكانت المرأة الكافرة قد قُتلت لأنها مقاتلة وهي لم تقاتل، وذلك غير جائز، فعلم أنه موجب للقتل وإن لم يكن قتالاً، وقد يكون قتالاً إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين وإغراء الكفار بحربهم، فأما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف.
الجواب الثاني: أنَّا نسلّم أن سب النبي e/ بمنزلة محاربة المسلمين ومقاتلتهم من بعض الوجوه، كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك ـ يعني سب الأنبياء ـ من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر، بل هو من أبلغ أنواع الحراب كما تقدم تقريره، لكن الجواب نوعان:
أحدهما: ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة، وبالاسترقاق أخرى، وبالمنِّ والفداء أخرى، وهو حراب الكافر بالقتال يداً ولساناً؛ فإن الحربي والحربية المقاتلة إذا أُسِروا فاستُرقَّا انقطع عن المسلمين ضررهما كما قد يزول بالقتل، وكذلك لو مُنَّ عليهما رجاء أن يسلما إذا بدت مخائل الإسلام، أو رجاء أن يكفا عن المسلمين شر من خلفهما، أو فُودِي بهما، فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور.
والثاني: ما لا تزول مفسدته إلا بإقامة الحد فيه، مثل حراب المسلم أو المعاهد في دار الإسلام بقطع الطريق ونحوه؛ فإن ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء.
فهذه الأَمَة التي كانت تسب النبي e قد حاربت في دار الإسلام، فإن قيل: "تعاقب بالاسترقاق" فهي رقيقة فلا يتغير حالها، وإن قيل: "يمن عليها أو يُفادي بها" لم يجز؛ لوجهين:
أحدهما: أنها ملك مسلم، ولا يجوز إخراجها عن ملكه مع حياتها.
الثاني: أن ذلك إحسان إليها وإزالة للرق عنها، فلا يجوز أن يكون جزاءً لسبها وحرابها، فتعين قتلها.
الجواب الثالث: أن مفسدة السب لا تزول إلا بالقتل؛ لأنها متى استبقيت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء، بخلاف المرأة المقاتلة إذا أُسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها، ولا يمكنها مع استرقاقها أن تقاتل، ويمكنها أن تظهر السب والشتم فصار سبها بمنزلة الجنايات التي توجب العقوبات، لا تزول مفسدتها إلا بإقامة الحد فيها، وعلم أن الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا أسرت، بل هي بمنزلة الذمية التي تقطع الطريق وتزني.
الجواب الرابع: أن الحديث فيه حكم وهو القتل، وسبب وهو السب، فيجب/ إضافة الحكم إلى السبب، والأصل اتحاد الحكم، فمن زعم أن للسبب حكماً آخراً احتاج إلى دليل، وقياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
¥