الخامس: أنها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكان النظر فيها للإمام، لا يجوز لآحاد الرعية [تخير] واحدة من الخصال الأربع فيها، ومن قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين إن كان فيئاً وللغانمين إن كانت مغنماً، فعلم أن القتل كان واجباً فيها عيناً.
هل الحدود يقيمها الإمام فقط؟
يبقى أن يقال: الحدود لا يُقيمها إلا الإمام أو نائبه، وجوابه من وجوه:
الأجوبة على ذلك
أحدها: أن السيد له أن يُقيم الحد على عبده، بدليل قوله e: " أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكتْ أَيْمَانُكُمْ"، وقوله: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا". ولا أعلم خلافاً بين فقهاء الحديث: أن له أن يقيم عليه الحد، مثل حد الزنى والقذف والشرب ولا خلاف بين المسلمين أن له أن يُعزِّره، واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلاً أو قطعاً، مثل قتله لردَّته أو لسبه النبي e وقطعه للسرقة؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان:
إحداهما: يجوز، وهو منصوص عن الشافعي.
والأخرى: لا يجوز، كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو قول مالك، وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق، وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها فاعترفت بالسحر، وكان ذلك برأي ابن عمر، فيكون الحديث حجة لمن لم يجوِّز للسيد أن يقيم الحد على عبده مطلقاً، وعلى هذا القول فالسيد له أن يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد وهو إحدى الروايتين عن مالك، والنبي e لم يطلب من سيد الأمَةِ بَيِّنَة على سبه، بل صَدَّقه في قوله: "كانت تسبك وتشتمك" ففي الحديث حجة لهذا القول أيضاً.
الوجه الثاني: أن ذلك أكثر ما فيه أَنَّه افتئات على الإمام، والإمامُ له أن يعفو عمن أقام حداً واجباً دونه.
الوجه الثالث: أن هذا وإن كان حداً فهو قتل حربي أيضاً، فصار بمنزلة قتل حربي تَحَتَّم قَتْلُه، وهذا يجوز قتله لكل أحد، وعلى هذا يحمل/ قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له: إنه يسبُّ النبي e فقال: لو سمعته لقتلته.
الوجه الرابع: أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله e، مثل المنافق الذي قَتَله عمر بدون إذن النبي e لما لم يَرْضَ بحكمه، فنزل القرآن بإقراره، ومثل بنت مَرْوَان التي قتلها ذلك الرجلُ حتى سَمَّاه النبي e ناصراً لله ورسوله، وذلك أن مَن وجب قتلُه لمعنى يكيد به الدين ويفسده ليس بمنزلة مَن قتل لأجل معصية مِن زنىً ونحوه.
الجواب السادس: أن الفقهاء قد اختلفوا في المرأة المقاتلة إذا أُسرت، هل يجوز قتلها؟ ومذهب الشافعي أنها لا تقتل، فلو كانت هذه إنما قُتلت لكونها قاتلت لم يجز أن تقتل بعد الأسر عنده، فلا يصح أن يُوَرَدَ هذا السؤال على أصله.
الدليل الثالث على أنه يتعين قتل الساب الذمي ولا يجوز المن عليه ولا المفاداة به
الدليل الثالث: أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوماً بأمانٍٍ يعقد له أو ذمة أو هُدْنة، ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حَقْن الدم، والنفر الذين أرسلهم النبي e إلى كعب بن الأشرف جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى، وهذا كله يثبت الأمان، فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافراً حربياً لم يجز قتله بعد أمانه إليهم وبعد أن أظهروا له أنهم مؤمنون له واستئذانهم إياه في إمساك يديه، فعلم بذلك أن إيذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد، وذلك لا يكون إلا فيما أجب القتل عيناً من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك، فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح ولا يصيرون مستأمنين، بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم، فعلم أن ساب النبي/ e كذلك.
يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي e: " إِنّهُ لَوْ قَرَّ كَمَا قَرَّ غَيْرُهُ مَا اغْتِيْلَ، وَلَكِنَّهُ نَالَ مِنَّا الأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَم يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ كَانَ السَّيْف" فإن ذلك دليل على أن لا جزاء له إلا القتل.
الدليل الرابع: قوله e إن كان ثابتاً: "مَن سَبَّ نَبِيّاً قُتِلَ وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابَهُ جُلِدَ"، فأوجب القتل عيناً على كل سابٍّ، ولم يخير بينه وبين غيره، وهذا مما يعتمد في الدلالة إن كان محفوظاً.
¥