فيمتنع النسخ في القواعد ومقاصد التشريع؛ لأنها كليات، ولم يقع في جميع ما يذكر فيه النسخ من نصوص الكتاب والسنة نسخٌ لقاعدة كلية، إنما جميع أمثلة النسخ واردة في جزئيات الأحكام؛ رعاية للمقاصد الكلية (10).
وتستثنى من النسخ كذلك: أحكام جزئية اقترن تشريعها بما دل على تأبيدها (11)؛ وذلك مثل قوله تعالى في حديث فرض الصلوات ليلة المعراج: "هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي" (12).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" (13).
7 - أن يكونا متعارضين في المعنى:
بمعنى أنه لا يوجد سبيل لإعمال النصين جميعا، وإنما يأتي أحدهما على ضد الآخر في دلالته ومعناه، فكل نصين أمكن التوفيق بينهما يقدم التوفيق على النسخ.
كأن يكون أحدهما خاصا والآخر عاما، والمطلق مع المقيد، والمجمل مع المفسر، والتشريعين المختلفين لاختلاف الظرف، فكل منهما معمول به في وقته أو معناه.
قال ابن جرير الطبري: "وإنما يكون الناسخ ما لم يُجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة ... فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر؛ فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء" (14).
ومما يمتنع فيه النسخ مطلقا من نصوص التكليف: جميع ما لا يتصور فيه التضاد بين تكليفين؛ كالنصوص الآمرة بالتوحيد وسائر العقائد، ونصوص مكارم الأخلاق والفضائل، فهذه لا يجوز أضدادها في دين الإسلام، ومن شرط صحة النسخ: التقابل بين التكليفين (15).
8 - أن يكون الناسخ متأخرا في زمن الشريعة عن المنسوخ:
والمراد به: أن يكون الحكمان قد انفصل أحدهما عن الآخر بزمان أمكن فيه امتثال الحكم المنسوخ قبل تبديله بالناسخ.
كما تراه في آية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود}. [البقرة/ 187]. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس، حتى نزلت هذه الآية" (16).
قال القرطبي: "وقيد بالتراخي؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله؛ كقولك: قم؛ لا تقم" (17).
الفصل الثالث: ما يقع به النسخ
يقع النسخ في واحد من الأمور الأربعة التالية:
1 - نسخ القرآن بالقرآن:
ولا يختلف أهل العلم في أن هذه الصورة من النسخ واقعة في مواضع في القرآن الكريم، تتفاوت أقوالهم في عددها، والتحقيق أنها قليلة (18).
ومثاله: نسخ التخيير للقادر على الصوم بين أن يصوم أو يفتدي بالصوم دون الفدية. فالحكم المنسوخ في قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم}. [البقرة/ 184].
والناسخ له: قوله تعالى في الآية بعدها: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. [البقرة/ 185].
2 - نسخ سنة بسنة:
ووقوع هذا النوع لا خلاف في صحته (19).
ومثاله: حكم التطبيق في الركوع. فالمنسوخ: ما حدث به علقمة بن قيس والأسود بن يزيد أنهما: دخلا على عبد الله – أي: ابن مسعود – فقال: "أصلى مَن خلفكم؟ ". قالا: "نعم". فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: "هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (20).
والناسخ له: ما حدث به مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: "صليت إلى جنب أبي، فلما ركعتُ شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أُمِرْنا أن نرفع إلى الركب" (21).
3 - نسخ قرآن بسنة:
وهذا قد اختلفوا فيه على مذهبين:
المذهب الأول: امتناع نسخ الآية بالسنة. وهذا مذهب الأئمة سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب مالك.
المذهب الثاني: صحة نسخ الآية بسنة. واختاره بعض أعيان الشافعية؛ كإمام الحرمين الجويني، والغزالي، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، واختيار ابن حزم الظاهري (22).
¥