التاسعة عشرة: قال الصيمري والخطيب - رحمهما الله -: وإذا سأل فقيه عن مسألةٍ من تفسير القرآن العزيز فإذا كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك، كمن سأل عن الصلاة الوسطى، والقرء، ومن بيده عقدة النكاح، وإن كانت ليست من مسائل الأحكام، كالسؤال: عن الرقيم والنقير والقطمير والغسلين، رده إلى أهله، ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير، ولو أجابه شفاها لم يستقبح، هذا كلام الصيمري والخطيب.
ولو قيل: إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به، لكان حسناً، وأي فرق بينه وبين مسائل الأحكام؟ والله أعلم.
فصل
في آداب المستفتي وصفته وأحكامه
فيه مسائل:
إحداها في صفة المستفتي: كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مُستفتٍ مقلِّد من يفتيه.
والمختار في التقليد أنه قبول قولِ من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجّة على عين ما قبل قوله فيه، ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة، يجب عليه علم حكمها، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه، وإن بعدت داره، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام.
الثانية: يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته.
فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء، بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك.
ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى.
وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر ; لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها، وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس.
والصحيح هو الأول ; لأن إقدامه عليها إخبارٌ منه بأهليته، فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته، ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو إسحاق المصنف - رحمه الله - وغيره: يقبل في أهليته خبر العدل الواحد.
قال أبو عمرو: وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة، لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم؟ والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب، بل له استفتاء من شاء منهم ; لأن الجميع أهل، وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي، وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين، قالوا: وهو قول أكثر أصحابنا.
والثاني: يجب ذلك; لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال، وشواهد الأحوال. وهذا الوجه قول أبي العباس بن سريج، واختيار القفال المروزي، وهو الصحيح عند القاضي حسين، والأول أظهر، وهو الظاهر من حال الأولين.
قال أبو عمرو -رحمه الله -، لكن متى اطلع على الأوثق، فالأظهر أنه يلزمه تقليده، كما يجب تقديم أرجح الدليلين، وأوثق الروايتين، فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين، والأعلم من الورعين، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قلد الأعلم على الأصح.
وفي جواز تقليد الميت وجهان: الصحيح: جوازه ; لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولهذا يعتد بها بعدهم في الإجماع والخلاف، ولأن موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه. والثاني: لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق، وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار.
الثالثة: هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء قال الشيخ: ينظر: إن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا؟ أحدهما لا مذهب له ; لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما.
والثاني وهو الأصح عند القفَّال له مذهب فلا يجوز له مخالفته.
¥