تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوّاً إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.

وأتقن العربية أصولاً وفروعاً، وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئِهم، وحذّر منهم ونصر السنّة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنّة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على صحبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل المِلَلِ والنِّحَل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم، بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته.

ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: إني ما رأيت بعينيّ مثله، وأنّه ما رأى مثل نفسه».

ثم نقل عن كتاب للذهبي سمّاه (التاريخ الكبير) قال فيه: «وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، إليه المنتهى في عَزْوِه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصْدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث» (1).

ونقل عنه قوله: « .. وغالب حطه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفّر أحداً إلا بعد قيام الحجّة عليه».

وقال: «ولقد نصر السنّة المحضة، والطريقة السلفية، واحتجّ لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يُسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأوّلون والآخرون وهابوا، وجَسَر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياماً لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الذي أداه إليه اجتهاده وحدّة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله.

فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شاميّة ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية.

وله من الطرف الآخر محبّون من العلماء والصُّلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجّار والكبراء، وسائر العامة تحبّه، لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه.

وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبّه الأبطال، ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان، والْتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع ودخل وخرج، واجتمع بالملك ـ يعني قازان ـ مرّتين وبقطلوشاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول.

وله حدّة قويّة تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حَرِب، وهو أكبر من أن ينبّه مثلي على نعوته، وفيه قلّة مداراة، وعدم تُؤدة غالباً، والله يغفر له، وله إقدام وشهامة، وقوّة نفس تُوْقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه.

وله نظم قليل وسط، ولم يتزوّج، ولاتَسَرّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل وأخوه يقوم بمصالحه، ولايطلب منهم غداء ولاعشاء في غالب الوقت.

وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لايذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم وهو فقير لامال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء: فرجية ودَلق وعمامة تكوّن قيمة ثلاثين درهماً، ومداس ضعيف الثمن، وشَعْره مقصوص.

وهو ربع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، ويصلّي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها، وربما قام لمن يجيء من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم، ولم ينحن لأحد قط، وإنما يسلّم ويصافح ويبتسم، وقد يعظّم جليسه مرة ويهينه في المحاورة مرات» (1).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير