وعند حديثه عن دخول المغول بلاد الشام وكان حينئذ بحلب سنة700هـ سجّل أمراً مهماً في سيرته إذ وصف خروجه من دمشق وكونه بحلب بأنها: «لأسباب وتعصبات من أعداء الدين المدعين أنهم علماء وفضلاء، طهّر الله الأرض منهم» ولما جاء إلى ذكر تولّيه قضاء بهسنى وصف توليه لها بأنه كان «من عجائب الزمان واختلال الأركان بحيث إن قبح ذلك لايوصف أبداً .. ».
وقال في عرض حديثه عن مساوىء الغيبة والنميمة: « ... ولكن قد ابتلي بهما أهل زماننا، ولم يبق يمكن تخلصهم منهما إلا أن يشاء الله. ومما أوجب انفصالنا عن دمشق حرسها الله تعالى، إلى بلاد الأطراف بعد قضاء الله تعالى الغيبة والنميمة المشار إليهما، واستقباحنا لهما، ونفرتنا منهما ومن أهلها، وتجنبنا ذلك ومثله.
على أن أكثر من رَأينا لا يتهيأ لهم مصلحة إلا بهما وبأمثالهما، وبذلك يروج محالهم ويتقوم حالهم، ونحن نسأل الله تعالى لطفه وهدايته، وإرشاده وحمايته، وحفظه وصيانته، لنا ولسائر المسلمين آمين» (1).
وقال ناصحاً قرّاءه من الصوفية: « ... ولا تغتر بمن يخالفه فهم الجاهلون، وإن كانوا قد شاركوا في بعض أبواب الفقه أو غيره، ولقد ثلب أعراضنا جماعة منهم وبالغوا في إيذائنا بجهالاتهم القبيحة بسبب جهرنا بالذكر (1)، والاعتناء بمحافله والإكثار من مجالسه»، حتى قال: «فيا حسرة على الجهلة ما أخسر صفقتهم المغبونة، وما أفحش ضلالتهم الملعونة. عافانا الله وسائر إخواننا المؤمنين من بلائهم المبين» (1).
وشاهد ما ذهبت إليه من أنه أُبعد عن دمشق من قبل بعض أمراء المماليك وبعض خصومه، ما ذكره عند كلامه عن خصم له لم يسمّه أكبر الظن أنه شيخ الإسلام ابن تيمية، كان يرد كرامات أوليائه المزيّفين على أنها من علم السيمياء (السحر)، قال: « .. أو يقول إن ذلك من فعل الشياطين، كما قد اشتهر عن بعض الفقهاء في زماننا بحيث لم يبق لأحد عقيدة في الصالحين، ولا حسن ظن في المؤمنين، وقد أتيت بما يقوله، وحقّق أن أولياء الإسلام كذّابون زغبلة أو مغرورون شيطانية.
وليس أحد من العلماء يرى أن يقيم نفسه في مقابلته لما قد اشتهر عنه من كثرة المناوآت، وما تحقق عنده من حب المماراة، وقد ارتبط عليه خلق كثير من العوام، وصار له جاه ظاهر عند جماعة من ذوي الأحكام، فمن ناوأه أتعبوه، ومن عارضه أعانوه، جاه الحق ضعيف وقَدُّ الحق سخيف، والوقت يقتضي ظهور ما يجب ستره، وإقامة ما يتعيَّن كسره، ولا قوة إلا بالله» (1).
وحكى أن أميراً مملوكياً كان يناقش الرفاعية بقرية (قَطَنَا) ويقول: «هؤلاء يَدَّعون الحكم على النار، وأنا لا أصدقهم، وأنا على مذهب فلان ـ العالم المعروف ـ الذي لم يبغ منكراً على الأولياء وغيرهم .. » (1).
وقد علمنا من المصادر التي ترجمت لشيخ الإسلام أن بعض أمراء المماليك كانوا يحبونه ويعظمونه، بل إن السلطان الناصر (ت741هـ) كان يحترمه ويعزه. وتأمل قوله الذي ذكر فيه رواج مصنفاته رحمه الله عند السوقة والسلاطين. وذلك عند حديثه عن أوليائه أيضاً: « ... وذلك عكس ما يقوله بعض علماء زماننا إذ قد جعل هؤلاء وأمثالهم من الشياطين، وأكثر في ذلك مصنفات متنوعة راجت عند السوقة والسلاطين، فأقل ما يقول: إني لم أقدح إلا من كان على غير الكتاب والسنة فيُصغي السامع إلى قوله ثم يشرع فيقدح الكل ويتعدى إلى المشايخ الكبار الذين وقع الاتفاق على ولايتهم، وصاروا ربانيين هذه الأمة، وإذا حاققه شخص أخرج لهم ذنباً، واخترع لهم خطأ ليخرجهم عن الكتاب والسنة» (1).
وغني عن القول إن هذا كذب عظيم على شيخ الإسلام فما كان لينقد من الأكابر إلا من أخطأ وهل كانوا معصومين؟
أما العامة الذين أشار إليهم من محبي شيخ الإسلام، فيقول فيهم في موضع آخر: « ... كفانا الله أمرهم، وردَّ عليهم شرّهم. ولقد ابتُلينا بهم كثيراً، ولقينا من جهلتهم وبالاً كثيراً، ونحن إلى الآن (سنة715هـ) لم نخلص من تعدّياتهم، ولم نسْلم من فساد أذهانهم، وغالبهم اليوم ممن يدعي الفقر والسلوك ويحل نفسه في طريقهم محل الملوك .. »، ثم دعا عليهم (1).
وقال بعد سرده لكرامات أشياخه التي تخالف العقل والدين: « ... واعلم أنه لا موجب لإنكار الحقائق وإهدار المعارف غالباً في هذا العالم إلا كلام من لا يعلم كما قال من قبلنا: لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
¥