فكان الجواب: إنّ كُتب الفاضل الفلاني (1) جاءتنا من دمشق، ومما تضمنت أن أكثر هؤلاء الفقراء اليوم زنادقة يحل قتلهم بالأصالة (1)، فتعب العبد الضعيف كثيراً، إلى أن أزال من ذهنه الشيطاني ذلك أو بعضه، وعرف السامع تعصب ذلك الفاضل وبغضه، وغور قوله وعوره، ونقصه ونقضه، وطول بلاء معتقده وعرضه.
فأي فتنة أبلغ من ذلك في الدين، وأي فرصة أشهى منه إلى قلوب المفسدين، فالله تعالى ينظر إلى الإسلام بعينه المتعالية عن المنام، ويريحهم من ذلك وأمثاله الذين قد انثلم الدين بتمعلمهم (كذا) أقبح انثلام، وهم يعتقدون أنهم من أعوانه وأن كلاً منهم بما يعتمده يحقق أمانة إيمانه، تعالى الله عن ذلك أن يكون كذلك بل هم المفسدون المفرقون والمارقون الممزقون .. » (1).
وقال بعد كلام طويل عن الرفاعي وكون قبره يُقصد بالزيارة ونيل البركة: « .. وإن أنكر ذلك بعض المدّعين علماً وفضلاً، واستدلّ بظواهر، واعتضد بنقول، فليس بشيء عند التحقيق في ذلك جميعه (!!) وفيه بحث كثير وكلام طويل.
والذي عليه العمل الآن، وقد قال به أئمة الأمصار: الجواز والاستحباب (!!)،فثق بما نقوله ولا تغتر بمخالفته، فليس هو في مخالفته سائر مع الحق، ولا قاصد إلى الصدق، حقّقنا ذلك كشفاً (!!) وعلماً، وأوثقناه حكمة وحكماً» (1).
ولذلك نراه يذكر زياراته لقبور أوليائه، من ذلك أنه زار تربة أحدهم (بكفر طشة) قرب البيرة وقال: « .. ولنا إليها ترداد، وسهرنا فيها ليالي بالذكر والفكر، ولنا منه نصيب وافر في الباطن، وبإحسانه وفضله»، وقال عن تربة أخرى: «ولنا إليها تردد بحمد الله» (1).
واتَّهم ابنُ السَّرَّاج شيخَ الإسلام بأنه مثير للخلاف إلى آخر ما هنالك من افتراء مكرر في ثنايا الكتاب، ففي مقدمة (التشويق) يقول: «إنه كثرت الإشارات الباطنة (!!) إلينا في تأليف هذا الكتاب، على ما هو عليه من تقريع المتمعلمين والمتحذلقين (كذا)،واستهجان المتقولين، واستقصاء الحاسدين والحاقدين». ثم وصف ابن تيمية وأصحابه قائلاً: « .. وسبب قولنا في ذلك ومثله؛ أنه قد ظهر في زماننا أقوام قد أغروا بمهلك الخلاف، وسلّوا سيف الفتن من مُحكم الغلاف، وأوسعوا الحيل في تفريق الائتلاف، وبذلوا الجهد في موجب تحقيق التلاف، وأطالوا في إفساد العقائد كلاماً كثيراً وارتكبوا في هدِّ القواعد إثماً كبيراً، ورضوا لأنفسهم تكرار الإهانات سنين عديدة، ولم ينالوا بتوالي العتابات ... » ثم حكى أحلاماً تحلَّمها من هم على شاكلته في ذمّ أبي العباس ـ قدس الله روحه ـ ومنهجه وفتاواه (1).
أما قوله: إن الإشارات الباطنة كثرت إليه في تأليف كتابه (التشويق) على ما هو عليه ... إلخ، فقد دلّنا كيف تكون الإشارة بذلك عنده، ومنها نفهم كيف يفكر الصوفي قال: « .. ولقد وقع للعبد الضعيف مصنّف هذا الكتاب ـ عفا الله عنه ـ من ذلك شيء كثير، وأضمرت في نفسي عزماً على ما سأفعله من عقد مجلس ذكر أو غيره من أبواب الخير، فأرسل الله تعالى من خاطبني بذلك على ما هو مضمر في نفسي، فأعلمُ وأتحقق أنه مخاطبة معلمة باستحسان ذلك، ومشيرة بفعله، ومرغبة في اصطناعه، وهذا الذي نقوله يعرفه من له ذوق» (1).
قلت: إذن فالمسكين يعدّ وسوسة شيطانه وطلب رفاعية دمشق وقلندرية الأرجاء تأليف كتابه ذاك إشارة تستحسن عزمه الرد على شيخ الإسلام، وكان قد قال في أوائل كتابه: « .. ولم نقل شيئاً ولم نؤلف كتباً إلا بإشارة مقبولة» (1)
وقد روى ابن السَّرَّاج (ت694هـ) حادثة عساف وكاتبه النصراني التي جرت سنة693هـ ويبدو أنه كان بدمشق يومئذ فقد ذكر بعض التفاصيل التي تهم المؤرخين، بيد أني توقفت عند تعبير استخدمه في كلامه يستنتج منه غيظه على ابن تيمية رحمه الله. قال ـ والقصة عند ابن كثير (1) وغيره ـ: «وأفضى ذلك إلى أن نائب السلطنة الشريفة ملك الأمراء عز الدين أيبك الحموي (ت703هـ) ضرب الشيخ زين الدين الفارقي ضرباً عظيماً، وضرب الشيخ تقي الدين بن تيمية أقل منه، ظلماً وعدواناً .. » (1).
فإن كلمة: «أقل منه» تُظهر خبء شعور ابن السَّرَّاج تجاه ابن تيمية في هذه الواقعة أيضاً، وكان ابن السَّرَّاج يعظّم الفارقي لأسباب، منها قول الفارقي في الفقراء؛ أصحاب ابن السَّرَّاج: « .. أعطيت من الله أن مهما ورد عن الفقراء رضي الله عنهم مما تستنكره الضعفاء أستخرج له وجهاً، وأقيم عليه دليلاً وأحل عويصه!!» (1).
¥