وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((التدمرية)) المطبوعة ضمن ((الفتاوى)) (3/ 43): ((القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد. فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك: فإن كان القائل يعتقد أدى ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم؛ فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل ... )).
إلى أن قال رحمه الله: أو إن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد؛ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون عليه كعلمنا وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة عالم حقيقة قادر حقيقة؛ لها يكن فرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير؛ فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: ? يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ? [المائدة: 54]، ? رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ? [البينة: 8]، وقوله: ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? [الأعراف: 54] وغيرها،: إنه على ظاهره؛ لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبا كحبه، ولا رضي كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به؛ لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا؛ إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا.
وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير؛ لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا. فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه؛ لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين؛ فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه؛ كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر؛ فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي)).
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: ((فسقوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ... )): قول بلا علم، وهو أصل التعطيل.
وقد دل العلم على تسمية ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: صفات، والعقل الصحيح لا يخالف السمع الصحيح؛ فإذا صح السمع بتسمية ما وصف الله به نفسه صفات؛ فالعقل يوافقه ولا يخالفه؛ إلا إن كان العقل فاسدا؛ فلا عبرة به.
وأهل العلم والدين يثبتون لله تعالى جميع الصفات التي صحت بها النصوص، لا يعدون ذلك؛ فهم لا يصفون الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يحرفون، ولا يكيفون، ولا يمثلون، وهذا حقيقة الانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتحريف صفات الله تعالى ونفي معانيها وما دلت عليه إلحاد عظيم، وهو من أعظم الكذب على الله تعالى، وقد قال تعالى: ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? [الصف: 7]، وقال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ? [النحل: 116].
¥