وقد تعاقب أبناؤه وحفدته من بعده على خطابة المسجد الأقصى وإعادة المدرسة الصلاحية في القدس، والقضاء في مصر والشام أكثر من قرن ونصف من الزمن، وكلهم يعرف باسم "ابن جماعة"، وآخر من ذكر القاضي مجير الدين الحنبلي ـ وهو من أعلام القرن العاشر الهجري ـ من أفراد هذه الأسرة العلمية: الخطيب محب الدين ابن جماعة وأخوه شيخ الإسلام نجم الدين (16).
أما تلامذة بدر الدين ابن جماعة فنكاد لا نحصي لهم عدداً، وإن منهم من تقصر دونه أعناق الطامحين، ويكفي أن نذكر المسند الكبير برهان الدين الشامي (17)، وعبد الوهاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى (18)، وعبد العزيز ابن جماعة قاضي القضاة في مصر والشام فلذة كبده وقرة عينه .. وآخرين غيرهم أتى على ذكرهم أصحاب التراجم.
وحياة ابن جماعة المديدة جعلته معاصراً لأحداث عديدة، فقد شهد سقوط دولة بني العباس في بغداد على أيدي المغول، ومرحلة التراجع الصليبي، وغروب شمس بني أيوب عن مصر والشام، وقيام حكم المماليك فيهما .. وما تبع ذلك من اصطراع على السلطة، حتى أن الملك الناصر محمد بن قلاوون ـ بعد استعادته سلطته للمرة الثالثة ـ عاتب ابن جماعة قائلاً: يا قاضي .. كيف تفتي المسلمين بقتالي؟ .. فأجابه ابن جماعة: معاذ الله أن تكون الفتوى كذلك، إنما الفتوى على مقتضى كلام المستفتي (19).
ونحن نستطيع من خلال هذه المحاورة أن نستظهر كيف كان ولاة الأمر يوظفون القضاء لخدمة مآربهم السياسية متوسلين إلى ذلك بالخدع اللفظية، على أن مكانة ابن جماعة، كان تحول دون الإيقاع به، فقد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره: القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ (20)، وابن جماعة هو الذي يقول:
لم أطلب العلم للدنيا التي ابتغيت
من المناصب أو للجاه والمال
لكن متابعة الأسلاف فيه كما
كانوا فقدّر ماقد كان من حالي (21).
وقد أجمع أصحاب التراجم على حسن سيرة ابن جماعة وصفاء سريرته وزهده وتقشفه في كل شيء مأكلاً وملبساً ومركباً، وأثنى عليه كثير ممن عاصره، وشهدوا بصحة أحكامه ويمن أيامه، وفهمه وعلمه. وإذا كانت المعاصرة حجاباً كما يقال، إلا أنها لم تحجب صورة العالم الذي بسط إحسانه على أجيال تتابعت وأحقاب توالت. وحسب ابن جماعة شرفاً شهادة معاصريه من أقرانه وإخوانه، وأساتيذه وتلاميذه:
قال السبكي: محدث فقيه، ذو عقل لا يقوم أساطين الحكماء بما جمع فيه (22).
وقال الصفدي: كان قوي المشاركة في علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير، خطيباً تام الشكل ذا تعبد وأوراد (23).
وقال ابن الوردي: كان ينطوي على دين وتعبد، وتصون وتصوف، وعقل ووقار، وجلالة وتواضع .. حمدت سيرته، ورزق القبول من الخاص والعام .. ومحاسنه كثير (24).
وقال ابن كثير: ولي الحكم والخطابة بالقدس الشريف، ثم نقل إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية .. ثم ولي قضاء الشام، وجمع له معه الخطابة ومشيخة الشيوخ وتدريس العادلية .. كل هذا مع الرئاسة والديانة .. وله التصانيف الفائقة النافعة (25).
آثار ابن جماعة العلمية
ترك بدر الدين ابن جماعة عدداً من المؤلفات العلمية، وهي في جملتها لم تزل مخطوطة، وإن منها ماهو ضائع مفقود شأن الكثرة الكاثرة من تراث العرب الضخم، ولم يطبع من آثاره إلا القليل، وسوف نشير إلى واحد منها ونفصل فيه القول لكونه مرجعاً هاماً من مراجع أصول البحث العلمي والتربوي.
وقد تتبعت آثار ابن جماعة في كتب التراجم، وتأكدت من صحة نسبتها إليه ثم قمت بتصنيفها على أبواب العلم المعروفة، أما شعره فقد عثرت على مقطعات منه، وهي بالتأكيد لا تنقع غليل الباحث، ومن المرجح أنه غير مجموع، إذ لم أقف على ذكر ديوانه في أي مرجع اعتمدت عليه عند إعداد هذا البحث، وفيما يلي ثبت بمؤلفات ابن جماعة:
آ ـ في علوم القرآن:
1 ـ كشف المعاني عن متشابه المثاني: ذكره السبكي في طبقاته ونقل عنه، كما ذكره صاحب تاريخ حماة، والبغدادي في إيضاح المكنون وفي هدية العارفين. أما صاحب الأعلام فقد ذكره باسم "كشف المعاني في المتشابه من المثاني"، وأشار إلى أن الكتاب مخطوط (26).
وتذكر النشرة الإخبارية عن الأنشطة العلمية الإسلامية ـ العدد الخامس أن السيد عبد الغفار بدر الدين قد قام بتحقيق هذا الكتاب وحصل به على الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1401هـ.
¥