بَدر الدّين ابن جماعة حَياته العلميّة وآثاره
ـ[الطيب وشنان]ــــــــ[09 - 09 - 06, 04:25 م]ـ
بَدر الدّين ابن جماعة حَياته العلميّة وآثاره
- محمّد عَدنان قيطاز
لم يكن بدر الدين ابن جماعة سوى واحد من الأعلام الأفذاذ الذين عرفهم تاريخ العلم، بل قل كان رأس أسرة ضمت نفراً من علماء العرب الذين بسطوا جناح المعرفة على مصر والشام، وكان كل واحد منهم يعرف باسم "ابن جماعة" تخليداً لذكرى العالم المعلم الذي قدمته مدينة حماة، وتأكيداً على أهمية الدور العلمي الذي قام به في عواصم الوطن العربي: دمشق، والقدس، والقاهرة. فمن هو عميد هذه الأسرة العلمية ـ وماهي آثاره؟ ...
هو محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم الكناني الشافعي، وكنيته أبو عبد الله، ولقبه بدر الدين. ويعرف منسوباً إلى جده الرابع "جماعة"، وقد ذكر بدر الدين نسبه مفصلاً في آخر ورقة من ورقات كتابه "المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي"، مرفوعاً إلى قبيلة كنانة العربية (1).
ويذكر أصحاب التراجم أن بدر الدين ابن جماعة ولد بحماة سنة 639 هـ، باتفاق جميع الروايات (2)، خلا رواية ابن القاضي صاحب درة الحجال فقد جعلها سنة 649هـ، والصواب ما ذكرناه أولاً (4).
وقد تسنى لبدر الدين أن يعيش في كنف أبيه برهان الدين إبراهيم حياة علمية راقية، ذلك أن أباه كان فقيهاً متصوفاً متعبداً، مراقباً لله في حاله ومقاله (4)، وهو شيخ البيانية في زمانه (5)، فنشأ بدر الدين على طريقة أبيه محمولاً على جناح العلم والتصوف سنوات عمر مديد.
أما شيوخه الذين سمع منهم وروى عنهم في حماة ودمشق والقدس والقاهرة فهم كثرة نذكر منهم: جمال الدين ابن مالك صاحب الألفية في النحو، والقاضي تقي الدين ابن رزين الحموي (6)، ومسند الشام ابن أبي اليسر، وابن عزون، وابن عبد الله (7)، وابن مسلمة، وابن القسطلاني، وأصحاب البصيري (8)، كما روى عن شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي وأنشد في كتبه من مستحسن شعره (9). وقد خرّج علم الدين البرازالي مشيخة ابن جماعة في كتاب طبع في بيروت مؤخراً بتحقيق الدكتور موفق بن عبد الله.
ولما أتم بدر الدين تحصيله العلمي انصرف إلى التدريس والإفتاء، فقد ذكر أنه كان يدرس بالقيمرية في دمشق (10)، وأنه أفتى في سن مبكرة، ولما عرضت فتواه على الشيخ محيي الدين النووي استحسن ما أجاب به (11). أما السبكي صاحب الطبقات ـ وهو أحد تلامذة بدر الدين ـ فقد ذكر أنه ذو عقل لا يقوم أساطين الحكماء بما جمع فيه (12)، وكفى بالسبكي شاهداً على فضل بدر الدين ابن جماعة وعلو منزلته العلمية.
وقد انتدب ابن جماعة إلى القضاء والخطابة في القدس ودمشق والقاهرة، وبقي قاضياً للقضاة في مصر وحدها خمساً وعشرين سنة، ولما استغنى لم يأخذ على القضاء أجراً معلوماً، مقتدياً بشيخه تقي الدين ابن رزين الحموي (13). ويبدو أن أجمل أيامه في القضاء كانت في دمشق والقدس، حيث كان بعيداً عن مركز السلطة، آمناً على دينه، سالماً من الكيد والحسد. وكثيراً ماكان القضاة يتعرضون للعزل والنقل بسبب وقوفهم إلى جانب الحق، وعدم استجابتهم لأهواء السلاطين. وفي شعر ابن جماعة إشارة إلى ذلك هي في غاية البيان والإحسان. يقول:
يالهف نفسي لو تدوم خطابتي
بالجامع الأقصى وجامع جلَّق
ماكان أهنأ عيشنا وألذّه
فيها .. وذاك طراز عمري لو بقي
الدين فيه سالم من هفوة
والرزق فوق كفاية المسترزق
والناس كلهمُ صديق صاحب
داعٍ .. وطالب دعوة بترفق (14)
وقد أكسبته حياة القضاء الطويلة علماً لا ينضب معينه، وخبرة واسعة في دنيا الناس، وفهماً عميقاً لفنون الرواية والدراية، فانصرف يؤلف الكتب في قواعد الحكم والأحكام الفقهية، وفي أصول البحث والمناظرة والتربية. ولربما نظم الشطر ليزيح عن صدره معتلجاً أو وجداً منبعثاً .. حتى كف بصره، وثقل سمعه، فأعفى نفسه من القضاء، غير أنه لم ينقطع عن التدريس. وكان بيته المطل على نهر النيل موئلاً يقصده أهل العلم والأدب، فيسمعون ويتبركون، إلى أن وافاه الأجل سنة 733هـ، عن عمر يناهز الرابعة والتسعين، ودفن بالقرافة في القاهرة، قريباً من الإمام الشافعي، وكانت جنازته حافلة هائلة (15).
¥