" .. وأدركتُ فيها كثيراً من العلماء، والصلحاء، والعباد، والزهّاد، وسوق العلم حينئذ نافقة، وتجارة المتعلمين والمعلمين رابحة، والهمم إلى تحصيله مشرقة، وإلى الجد والاجتهاد فيه مرتقية، فأخذت فيها بالاشتغال بالعلم على أكثر الأعيان المشهود لهم بالفصاحة والبيان" (24).
وقد كان ابن خلدون (ت 808 هـ) يرى أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، فهو يقول: "إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علماً وتعليماً وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة .. إلاَّ أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشدُّ استحكاماً وأقوى رسوخاً، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها .. فالرحلة لا بدّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد، والكمال بلقاء المشائخ، ومباشرة الرجال" (25).
وكان لقاء المشايخ يتم في أماكن متعددة منها المساجد، التي كانت دور عبادة ومنارات علم، وكانت منتشرة في الممالك الإسلامية وعواصمها ومدنها، استقطبت الطلبة من كل صوب وحدب، وكانت محط آمال كبار العلماء والأدباء، ومأوى أرباب النبوغ النجباء الذين أشادت كتب الفهارس باطلاعهم وروايتهم وحفظهم وإسنادهم:
يقول أبو العباس أحمد بن يوسف اللَّبلي (26) (ت 691 هـ) الأندلسي في فهرسته (27):
"أما علم الكلام، وأصول الفقه، فإني أخذتهما تفقهاً عن جماعة كبيرة من العلماء المشهورين، والأئمة المعتبرين، وأنا –إن شاء الله تعالى- أذكر من أخذت عنه هذين العلمين، أو أحدهما، متصلاً إسناده بالإمام الرضي أبي الحسن الأشعري، واصفاً لهم بما ثبت لديّ من أحوالهم وبلغني صحيحاً من أخبارهم.
فممن أخذت عليه هذين العلمين بالبلاد المصرية تفقهاً شيخنا شرف الدين بن التلمساني، وأخذ شيخنا شرف الدين عن شيخه المقترح وأخذ المقترح عن شيخه الطوسي، وأخذ الطوسي عن شيخه الغزالي، وأخذ الغزالي عن شيخه أبي المعالي، وأخذ أبو المعالي عن شيخه الاسفرايني، وأخذ الاسفرايني عن شيخه الباقلاني، وأخذ الباقلاني عن شيخه الباهلي، وأخذ الباهلي عن شيخه الإمام أبي الحسن الأشعري.
قال الشيخ أبو العباس: فعلى طريق هؤلاء الأئمة –رضوان الله عليهم، ومغفرته لديهم- المنظومين في هذا السلك، المتهدى بأنوارهم في الدياجي الغلس، المقتدى بهم في الدين، آخذ علم أصول الدين، وها أنا أذكرهم بحول الله تعالى وقوَّته إماماً إمامَاً، وعالماً عالِماً، واحداً إثر واحد على النسق الذي ذكرناه، والترتيب الذي نظمناه".
وقد سارت الدراسات العربية في معظم أقطار المسلمين، ومنها الأندلس، متواكبة ومتلائمة مع الدراسات الإسلامية التي أسهمت في تكوين عقلية الدارس، ولعلّ فيما لدينا من كتب البرامج، وما فيها من أسانيد الكتب المدروسة عائدة إلى ناقلها الأول عن المؤلف، أو جالبها من المشرق إلى الأندلس، إشارة واضحة إلى مراحل حياة طالب العلم قياساً على حياة بعض علمائها التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
وهي مرحلة الابتداء التي يشترك فيها الولدان جميعاً فيتعلمون الخط والقراءة، ويؤخذون بمعرفة شيء من اللغة والنحو وحفظ القرآن.
يقول ابن خلدون: "فأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلاَّ أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب" (28).
المرحلة الثانية:
هي الانقطاع للعلم رغبة في التخصص فيه، واستعداداً لاتخاذه مهنة، وفيها يؤخذ الطالب بدراسة كتب مقررة على شيوخ مختصين تقام حلقاتهم في المساجد، وإذا ما أفاد التلميذ من خزائن الكتب التي فيها، تيسر له جملة مطالعات حرة في مواضيع شتى.
المرحلة الثالثة:
¥