وبين هذين مراتب يقع النظر فيها بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر، وقد تتوسط فيقضي إما بالرجوع إلى أصل العدالة وإما إلى التوقف في القبول له أو المنع منه دفعًا للمتوقع من طرف الانحراف.
وكل هذا يجب أن يراعيه المجتهد بحسب الوقائع، فإن الصور لا تنحصر وقرائن الأقوال متعددة، فقد يكون العدل مبرزاً والتهمة أضعف بالنسبة إليه، وقد يكون غير مبرز فتقوى التهمة بالنسبة إليه، وقد تقوى في بعض الصور دون بعض.
فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الوجوه التي هي مظان التهم القادحة، وهي ترجع إلى تصوير الدعوى بصورة الشهادة، ولكنها إذا فصلت جملتها فهي على أوجه الشهادة للنفس: القرابة، الصداقة، العداوة، الشذوذ، الحرص على الشهادة قبل أن يسأله، التسلي بالاشتراك، رفع التعيير بالرد.
أما شهادة الخصم لنفسه بغير واسطة فواضح أو بواسطة شهادة العامة يحرج شهود القتل خطئًا، وشهادة الرجل لمن هو في عياله بمال وشهادته بمال لمديانه المعسر وما أشبه ذلك، فيتضح الحكم بالرد في كثير من الصور.
وأما القرابة فيحتمل القسم، فمنها قريبة جدا تتنزل من الإنسان منزلة الشغاف كعمودي النسب والزوجين، ومنها ما لا يكون كذلك كبني العم؛ وهذان القسمان بين حكمهما في لحوق التهمة وعدمها. ومنها ما يتوسط بين القسمين فيقع الخلاف، وينبغي أن لا يهمل النظر في موجبات التهم في كل نازلة، فقد يشكل الأمر فيهما إذا شهد لابنه على أمه أو بالعكس، أو شهد الأب على بعض بنيه للآخر، لأن المانع في هذه الأشياء هي التهمة فلابد من اعتبارها عينا في كل واقعة.
وأما الصداقة فعل ضربين، أحدهما صداقة الإسلام والجوار وشبهها فلا تهمة، والثاني صداقة ملاطفة وممازجة وهي كشهادة الأخ أو أضعف إلا أن يطرأ فيها ما لم تفض العداوة إلى الخروج عن مقتضى الشرع، والثاني تراعى فيه التهمة إذا قويت.
وأما الشذوذ فكشهادة البدوي على القروي في المال ونحوه مما العادة أن لا يشهد فيه إلا أهل الحضر، بخلاف شهادته في قتل أو جرح أو طلاق يسمعه وهو مار بالطريق. وحاصله أن كل شاهد في شيء لا يستشهد في مثله عادة فهو متهم.
وأما الحرص على الشهادة قبل السؤال ففيه تفصيل، إذ لا يخلو أن يكون الحرص على التحمل أو الأداء أو القبول:
فالأول كالمختفي ليشهد، فالتعويل على القرائن في التهمة أو عدمها
والثاني: إن كان حقا لله فإن الشهادة فيه تقبل وإن لم يدع ذلك مدع، ويلحق بهذا القسم ما مازجه حق المخلوق، إذ كل ما لا يجوز التراضي به ولا الموافقة عليه فلا يجوز السكوت عليه، كشهادة بحنث من حلف بالطلاق مع بقائه على المرأة أو نكاحه رضيعة أو ملاعنة، والشهادة بالتحبيس على غير معين وأشباه ذلك. وإن كان حقا لمخلوق كالأمور المالية، فإن لم يعلم صاحب المال بماله أو كان غائبا فشهادة به عاملة، وإن علم أو كان حاضراً فادعى حقه فأتى الشهادة ليشهد ولم يستدع فهذا هو المذموم في الحديث فيتهم، فإن ظهر منه بالقرائن الحرص على القبول اتهم. وحاصل هذه التفرقة بين أن يشهد امتثالا لأمر الله فلا يتهم، أو ليعده الناس عدلا فيتهم.
وأما التأسي بالاشتراك فهو أن تلحقه معرة كبيرة من الكبائر إما من فعله كالزاني يُحدُّ أو من غير فعله كولد الزنى، فإذا تاب لم يقبل في مثل ما لحقته المعرَّة فيه.
وأما رفع معرّة الرد فكالعبد والنصراني والصبي وأشباههم يشهدون عند الحاكم فيردون ثم يعيدونها بعد زوال المانع، فهذا فيه تفصيل، فإما أن يرفعها إلى الحاكم أو لا؛ وإذا رفعها فإما أن يردها أو يقف عنها فلا يقبلها ولا يردها. فهذه ثلاثة أقسام:
فالأول: أن يردها فلا تقبل إن أعادها لأن كل من ردت شهادته لمعنى فزال المعنى فأعادها اتهم.
والثاني: أن لا يرفعها كما لوقيل للحاكم عندي شاهد عبد فقال لا أقبله، ثم أتى بعد العتق فشهد فلا تهمة.
والثالث: أن يرفعه فيقف الحاكم ثم يعيدها بعد زوال المانع فالظاهر القبول لبعد التهمة ..
[يتبع] البقية قيد النقل
ـ[خلدون الجزائري]ــــــــ[09 - 07 - 08, 03:57 م]ـ
[تابع] نص المقتطفات التي أوردها الونشريسي في المعيار من كتاب للشاطبي وهو الآن مفقود.
قال الونشريسي:
"قال [يعني الشاطبي]:
وهنا أحكام للعطف على ما تقدم:
¥