وإن رأوا ما فيه مصلحة, أو فيه مصلحة, ولكن مضرته تزيد على مصلحته, لم يذيعوه.
ولهذا قال " لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ " أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة, وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية, وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور, ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك, ويجعل إلى أهله, ولا يتقدم بين أيديهم, فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع, لنشر الأمور, من حين سماعها.
والأمر بالتأمل قبل الكلام, والنظر فيه, هل هو مصلحة, فيُقْدِم عليه الإنسان, أم لا؟ فيحجم عنه» ().
ولا يخفى كم جرَّ عدم التثبت من مصائب وشرور وأحقاد بل وصل أحيانا إلى إراقة دماء معصومة بغير ذنب وجريرة!.
??????
(13)
الدَّاعِيَة البَصِير ..
وفقه الفتن
قال الحافظ أحمد بن صالح العِجْليُّ:
«حَدّثني أبي قال: هاجتْ فتنةٌ بالكوفة فعَمِلَ الحَسَنُ بنُ الحُرّ طعاماً كثيراً ودعا قُرّاء أهل الكوفة، فكتبوا كتاباً يأمرون فيه بالكف، وينهون عن الفتنة، فدعو سليمان الأعمش فتكلم بثلاث كلمات فاستغنوا بهن عن قراءةِ ذلكَ الكتاب فَقَالَ: رَحِمَ اللهُ امرأ "مَلَكَ لِسَانَهُ" ()، "وَكفَّ يدَهُ" ()، "وَعَالجَ مَا في صدرهِ" () تَفَرَقوا فإنه كَانَ يُكره طول المجلس» ().
وفي روايةٍ أُخرى: «فَقاَلَ الأعمشُ: مَلَكَ لسانَه رجلٌ، وحَفِظَ نفسَه، وعَلِمَ ما في قلبه، إنّه كانَ يُقَال: إنه إذا طَالَ المجلسُ كان للشيطان فيه مطمعٌ، أحضرْ طعامَكَ».
هذه ثلاث وصايا عظيمة مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله @ قَالها شيخُ المقرئين والمُحدثين، وحافظُ أهل الكوفة في زمانه، وأحد الستة الذين حفظوا العلم على أمة محمد @ (): سُليمانُ بنُ مِهْرَان الأعمش – وَمَنْ قرأ سيرته عَرَفَ إمامة هذا الرجل في العلم والعمل والزهد –.
ونحن في هذا الزمان – زمان الفتن – بحاجة لمثل هذه الوصايا المبنية على كتاب الله وعلى سنة رسول الله @، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقة ما ينبغي عمله عِندَ الفتن في ضوء كتاب الله وسنة رسوله @، قال عبدالرحمن بن أبزي: قلتُ لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان:
أبا المنذر ما المخرج؟ قال: كتابُ الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه ().
وكذا دراسة هدي صحابة رسول الله @ ومسلكهم عند الفتن التي مرت بهم بدءاً من فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان >.
قال أحمدُ بنُ حنبل حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين قال: «هاجتْ الفتنة وأصحابُ رسول الله @ عشرة آلاف فما خف فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين» ().
وفي ظني أنَّ مراعاة تلك الوصايا الثلاث من أعظم الأسباب لحفظ الدَّاعِيَة من الولوج في تلك الفتن التي تجعل الدعاة في حيرةٍ واشتباه.
وبالمقابل تجد من لم يملك لسانه يقطع في أمور لو وردت على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب > لجمع لها أهل بدر، واستخار الله فيه شهراً، وربما ترتب على هذه المسائل عدم كف اليد عن دماء المسلمين المحرمة، وانتهاك حرمة المسلم بالظنون والتخرصات.
ولو أنَّ كلَّ مسلم اشتغل بنفسه وعالج ما في صدره لوجد في ذلك شغلاً عن الخوض في الفتن.
ومما ينبغي التفطن له: أنه ليس من ملك اللسان واعتزال الفتن الرد على شبهات المبطلين واعتراضاتهم على أحكام الله ورسوله @.
وليس من الخوض في الفتن كذلك:
- تقرير مشروعية الجهاد في سبيل الله وأنه ذروة سنام الإسلام.
- وبيان وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- والتحذير من البدع والخرافات، والمذاهب الهدامة من العلمانية والحداثة وغيرهما.
بل إنَّ الكلام في هذه المسائل في هذا الزمان أصبح من أهم المهمات وأفضل الجهاد لأمرين:
الأوَّل: أننا نرى محاولات عالمية جادّة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة، وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام الآخر – زعموا!! –.
الثاني: عدم فهم بعض أبناء المسلمين للمسائل المتقدمة وعدم تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة الصحيحة مما ترتب عليه مفاسد عظيمة في الدين والدنيا، وإنّ من أخطر الأمور على النشء المسلم عدم المعرفة التامة بأحكام الإسلام في المسائل المتقدمة.
¥