ثم "سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي المتوفى سنة أربعمائة وستة وستين هجرية، والحقيقة "سر الفصاحة" فيه تجديد وبخاصة في مباحث الفصاحة والبلاغة والتفريق بين الفصاحة فصاحة الكلمة والكلام والمتكلم والبلاغة كذلك والتعميق في دراسات الأصوات والمؤثرات أيضًا في إخراج الكلمة من حيث قبولها ومن حيث –أيضًا- استساغتها و-أيضًا- التركيز على الذوق فيها.
بعد ذلك نصل إلى شيخ البلاغيين الذي أصل إلى حد ما البلاغة وقعدها ونضرها وتذوقها وهو الشيخ عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة هجرية، وكتاباه المشهوران اللذان إذا ذكرا ذكر الرجل، وإذا ذكر هذا الرجل ذكر الكتابان وهما "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
و"أسرار البلاغة" يكاد يكون معظمه في البيان في التشبيهات في الاستعارات في الكنايات وما تعلق بذلك ودلائل الإعجاز يكاد يكون معظمه في نظرية الإعجاز النظم.
نظرية النظم والتي إلى الآن تدرس وهي من أعلى النظريات في اللغويات.
أي نعم، بالضبط وصاحب الفضل بعد الله -عز وجل- في تأصيلها وتقعيدها وإضفاء أهمية هذه النظرية وكونها هي الأساس في إعجاز القرآن هو عبد القاهر صاحب الفضل في ذلك هو عبد القاهر في كتابه "الدلائل" فقد تذوق وعلل وحلل وتفاعل وانفعل في سبيل التقرير والتحديد وبيان أن القرآن معجز بنظمه ليس باستعاراته فقط ولا ببديعه ولا بتشبيهاته ولا بالمغيبات أو بالقصص لو كان الأمر كذلك لكانت الآيات التي ليس فيها قصص أو تشبيهات أو استعارات غير معجزة، لا، القرآن معجز بنظمه والنظم معناه التأليف والضم والجمع، كل كلمة فيه متسقة وجارية ومنتظمة مع أختها -ما قبلها وما بعدها- مؤثرة بحيث كما قال الإمام ابن عطية -رحمه الله- صاحب "المحرر الوجيز" المفسر الأندلسي: "وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على أفضل منها لم توجد"، فهو لا شك ? لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ? [فصلت: 42]، فالشاهد أن عبد القاهر الجرجاني يعد شيخ البلاغيين من حيث التأصيل، ولا يفهم هذا أنه قعد البلاغة أصلاً وضبطها وكذا لا، إنما أضاف جهدًا عظيمًا وأعطى هذا العلم ثِقلاً وموضوعية.
كلها مسألة تراكمية من بدايتها إلى نهايته.
أي نعم، فاستفاد مما قبله لكنه زاد بحبحة وتحليلاً وبين أيضًا تذوقًا وتفصيلاً وبخاصة في كتابه الدلائل؛ لأن الدلائل "دلائل الإعجاز" الدلائل جمع دليل والدليل هو البرهان، أراد الرجل أن يبرهن على أن القرآن معجز بدقيق نظمه، وبديع تأليفه، لأنه كلام رب العالمين جل وعز.
جاء بعد ذلك المفسر المشهور المتضلع في النحو الزمخشري فألف كتابه المشهور "الكشاف" -حقيقة- الرجل أعجب بكلام عبد القاهر في الدلائل والأسرار فأراد أن يطبق نظرات عبد القاهر ونظرياته في الإعجاز بأن ذهب يحلل ويعلل ويطبق.
إذا لم يسعف الوقت عبد القاهر الجرجاني بأن يطبق ويحلل تحليلاً أو يفسر صورًا بأجمعها في كتاب "الدلائل" أو في كتب أخرى، فإن الوقت قد أسعف الزمخشري عندما اقترح عليه بعض تلاميذه أن يؤلف كتابًا يبين فيه أسرار الإعجاز ودقائق التنزيل ولطائفه فاستجاب له فجاور مكة أربع سنوات فألف كتابه المشهور "الكشاف"، وهو الذي ذكر في مقدمته: أنه لا يمكن تعاطي علم التفسير إلا بعلمين جليلين: هما علم المعاني، وعلم البيان، فطفق يطبق هذه النظرية في كشافه، والزمخشري ينسب إليه فكرة أو مقولة: "الفنقلة"، وهي أسلوب من خلاله يتعرف الرجل أو المطالع أو المتدبر لكلام الله -عز وجل- على الدقائق واللطائف.
أسلوب الفنقلة هذا مشتق من قولك أو من قول الشيخ أو الزمخشري في كتابه: فإن قلت لم عبر -عز وجل- بالفعل دون الاسم؟ أقول كذا وكذا.
يحدث سؤالاً في أثناء تفسيره ليدغدغ -إن صح التعبير- عقل طالب التفسير أو القارئ حتى يثيره؛ لأن الإنسان إذا سئل استثير، ثم راح يشرئب للبحث عن الجواب فيجيبه ويعطيه الجواب مباشرة، فهذه المسألة أعانت الزمخشري وأعانت أيضًا طلابه والقراء في تفسيره أن يصل إلى الحقائق.
لكن الزمخشري كما نعلم هو على مذهب المعتزلة، المعتزلة ضلوا السبيل في أسماء الله -عز وجل- وصفاته وفي مرتكب الكبيرة وفي النظرة إلى الحاكم وغير ذلك من الأمور، فعندهم ضلالات لم يقرهم أهل السنة والجماعة عليها.
هناك كتب تحقق هذه الأمور.
¥