هو مقصود هذا الترتيب بهذه الطريقة، المؤلف أو المؤلفان ذكرا هذا من أجل بيان أن هذا الترتيب الذي هو غير دقيق ويخالف مقتضى قاعدة النحو يخل بالفصاحة ويخفي الدلالة دلالة المراد، ولهذا سيبين صحته، نعم.
("ما قرأ إلا واحدًا محمد مع كتابًا أخيه" كان هذا الكلام غير فصيح).
(غير فصيح) يعني غير ظاهر الدلالة، غير واضح.
(لضعف تأليفه، إذ أصله: "ما قرأ محمد مع أخيه إلا كتابًا واحدًا، فقدمت الصفة على الموصوف وفصل بين المتلازمين، وهما أداة الاستثناء والمستثنى، والمضاف والمضاف إليه، ويشبه ذلك قول أبي).
كلام المؤلف هنا عن التعقيد اللفظي.
التعقيد هنا نوعان: تعقيد لفظي في الكلام، وتعقيد معنوي.
التعقيد اللفظي: يتعلق بالألفاظ، تقديم، أو تأخير، أو الضمائر وإعادتها وعدم وضوح مراجعها، فيعد هذا أيضًا قدحًا مثل ما شرح أيضًا ومثل أيضًا قول الشاعر فيما أثر في بعض الشعر:
فأصبحت بعد خط بهجتها ** كأن قفرًا رسومها قلمً
هذا غير واضح، لكنك إذا رتبته الترتيب المناسب يكون واضحًا، "فأصبحت" هو يصف دارًا بالية أي اندرست وعفت آثارها، "فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلمًا خط رسومها" واضح الترتيب، "فأصبحت بعد بهجتها قفرًا" أي خالية مندثرة، "كأن قلمًا خط رسومها" فلاحظ أن ترتيب الألفاظ بحسب مقتضى اللغة ودقائق النحو ينجلي من خلاله المعنى ويظهر، وأن التعسر في الترتيب وعدم الضبط وعدم ملاحظة قوانين النحو يؤدي إلى الفساد اللغوي، ومن هنا يكون عدم الوضوح وفقدان الفصاحة، والغموض.
(رابعًا: ويجب أن يسلم التركيب من التعقيد المعنوي وهو أن يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل فيه كلمات في غير معانيها الحقيقية، فيسيء اختيار الكلمات للمعنى الذي يريده، فيضطرب التعبير ويلتبس الأمر على السامع.
مثال ذلك: أن كلمة "اللسان" تطلق أحيانًا ويراد بها اللغة، قال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ? [الرعد: 4] أي: ناطقًا بلغة قومه، وهذا استعمال صحيح فصيح، فإذا استعمل إنسان هذه الكلمة في الجاسوس وقال: "بث الحاكم ألسنته في المدينة" كان مخطئًا وكان في كلامه تعقيد معنوي).
هنا هذا المثال الذي ذكره المؤلف في مسألة التعقيد المعنوي.
التعقيد المعنوي المقصود به خفاء الدلالة، خفاء دلالة العبارة أو اللفظة أو التركيب بشكل عام على المراد بدقة مثل ما ذكر "اللسان"، اللسان مقصود به اللغة، ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ? أي بلغة قومه، وهذه من حكمة الله -عز وجل- حتى يفهموا عليه، حتى لا يكون لهم حجة أننا لم نفهم هذا أو كذا، الحاصل أن هذا قد يقيس عليه إنسان فيقول: "بث الحاكم ألسنته في المدينة" مثلاً، فالمقصود بالألسنة ما هي؟ اللغات، لا يمكن، فدلالته تكون خافية، ولو قال: "بث الحاكم عيونه في المدينة" صح؛ لأن العين ترى وتبصر وتجمع وتضبط وكذا، لكن بث ألسنته هنا خفي الدلالة فهو غير واضح، ولهذا عد العلماء بعض السقطات على بعض الشعراء كما سيأتي شواهد لذلك.
(ومن ذلك قول امرئ القيس في وصف فرس:
وأركب في الروع خيفانة ** كسا وجهها سعف منتشر
الخيفانة في الأصل الجرادة، ويريد بها هنا الفرس الخفيفة، وهذا لا بأس به وإن كان تشبيه الفرس بالجرادة لا يخلو من الضعف، أما وصف هذه الفرس بأن شعر ناصيتها طويل كسعف النخل يغطي وجهها فغير مقبول، لأن المعروف عند العرب أن شعر الناصية إذا غطى العينين لم تكن الفرس كريمة ولم تكن خفيفة).
نعم هو في بيت امرئ القيس هنا عدوا عليه مسألة "كسا وجهها سعف منتشر" لأن الكريم من الخيول أن يكون وجهها واضحًا بحيث ترى وتنظر مواطئ أقدامها، أما إذا عراها شعر وكذا قد تتعثر فيكون هذا ضعفا في قوتها وفي -أيضًا- نشاطها وفي المقصد منها، فاستعماله هنا غير دقيق ونال من فصاحة ألفاظه.
نخلص من هذا إلى أن:
فصاحة الكلام: هو أن يكون خاليًا من هذه العيوب، خاليًا من العيوب القادحة في الكلمة أصلاً، ثم أن يكون خاليًا من ضعف التأليف، وأيضًا خاليًا من التعقيد اللفظي والمعنوي الذي هو أساس الدلالة.
ينتج عن هذا:
إذا استوفى المتكلم شروط فصاحة الكلمة وشروط فصاحة الكلام أصبح المتكلم فصيحًا.
¥