وقال عز من قائل: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) (المائدة: 77).
قال ابن كثير رحمه الله ((2/ 430) ط الشعب): "ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) .. الآية " اهـ.
وقال ابن جرير – رحمه الله – (9/ 170 - 171): " (لا تغلوا في دينكم) يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق لأن الله لم يتخذ ولداً فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابناً.
وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين: قد غلا فهو يغلو غلواً " اهـ.
وقال ابن جرير أيضاً في تأويل قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) (10/ 484 - 485): "وهذا خبر من الله تعالى ذكره، احتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على فرق النصارى في قولهم في المسيح. يقول مكذباً لليعقوبية في قيلهم: هو الله، والآخرين في قيلهم: هو ابن الله، ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهم، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر. وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعبر، حجة له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه. وأمه صديقة.
وقوله: (كانا يأكلان الطعام) خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه: أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإن من كان كذلك فغير كائن إلهاً لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا رباً) اهـ.
قلت: ولأن الغلو في المسيح عليه السلام هو الذي أدى بالنصارى إلى الكفر فألهوه وعبدوه، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في شخصه لئلا تقع في المحذور الذي وقع فيه من قبلهم.
(1) فقال لهم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله " (أخرجه البخاري (6/ 478) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
(2) وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " (رواه أحمد (1/ 215) والنسائي (5/ 268) وابن خزيمة (4/ 274)).
(3) وأنكر على من قال له: "ما شاء الله وشئت " وقال: "أجعلتني لله عدلاً بل ما شاء الله وحده ". (رواه أحمد (ح1839) وفيه ضعف، وله شواهد).
(4) وكره أن يقوم له أصحابه، كما قال أنس رضي الله عنه: " لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك ". (رواه الترمذي (5/ 90) وصححه).
(5) وكره منهم قولهم له " أنت سيدنا " وقال: "السيد الله تبارك وتعالى " مع أنه أخبر في حديث الشفاعة أنه سيد ولد آدم، سداً لذريعة الغلو فيه بدليل أنه قال: "أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان". (رواه أبو داود (5/ 154)).
قلت: وهذا كان هديه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على الدوام، كان ينهاهم عن الغلو فيه والمبالغة في تعظيمه خوفاً عليهم أن يقعوا في المحظور الذي وقع فيه من قبلهم من أهل الكتاب.
ولم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على جانب الإنكار على الغالين، بل كان هديه التواضع لله والخشية والعبودية له والافتقار إليه في أحواله كلها.
¥