وقد اعترف المؤلف الفاضل بالجهود التي سبقته في محاولة تأصيل هذا العلم، إلا أنه على الرغم من تصريحه بتقديره لما فيها من جهد وعلم فإِنَّهُ يرى أنَّ أيًّا منها لم ينجح في تقديم تصورٍ كاملٍ للعلم؛ فمنها – على حد قوله – ما يتناول أشتاتًا متفرقة لا يحكمها منطقٌ في العرض، ولا يربطها خط فكريّ واضح في تسلسله، فجاءت فصول هذه المؤلفات مُتناثرة يصعب نظمها في عِقد كامل متصل الحلقات، ومنها ما يتناول موضوعات ليست من المخطوط العربي ولا من علم المخطوط، وضرب على ذلك أمثلة، نناقشُ بعضها فيما بعد هذا العرض. وقد نصَّ المؤلف على أربعة كتب عَدَّها أهم هذه المحاولات، وهي:
-» دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي «، تأليف الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين.
-» المخطوط العربي وعلم المخطوطات «، تنسيق المؤلف السابق.
-» الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات «، تأليف الأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد.
-» علم الاكتناه العربيّ الإسلاميّ «، تأليف الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي.
وبعد التمهيد قدّم المؤلفُ بمقدمة عرَّفَ فيها المخطوطَ لغةً واصطلاحًا، ونبّه إلى أنّ وصف المخطوط بالعربيّ يعني عروبة اللسان لا عروبة الجنس أو المكان. ثم تحدّث عن أهمية التّراث المخطوط للأمم عامة ولأمتنا خاصة، وأن تراثنا امتاز بأنه أطول عمرًا، وأضخم عددًا، وأشد تنوعًا، وأقوى انتشارًا، وأكثر أصالةً، من التّراث المخطوط لأية أمّة أخرى، وذلك نتيجة للبُعد الزمانيّ والمكانيّ والحضاريّ.
وقد أقام الباحث مفهومه لعلم المخطوط العربيّ على دعائم ستة، حدَّدَ بها العلم وقَصَرَ بها مجالات دراسته، وهي:
1) تاريخ المخطوط.
2) الكيان المادي للمخطوط.
3) توثيق وتقييم المخطوطات.
4) الصيانة والترميم والتصوير.
5) الفهرسة والضبط الببليوجرافي.
6) التحقيق والنشر.
وأضاف المؤلف - في ثنايا دراسته - أنَّهُ لا يُطلبُ من المتخصص في علم المخطوطات - بوصفه علمًا جامعًا لأكثر من مجال - أنْ يُتقن كُلًا منها على حِدَةٍ إتقان المتخصّص فيها، بل حسبه أن يُتقن جانبًا أو أكثر، وأن يكون على علم بالخطوط الرئيسة للجوانب الأخرى، فكلها تَُمثِّلُ محاور هذا العلم، وكلٌّ منها يؤدي دوره الذي لا غنى عنه، مثلها في ذلك مثل أجهزة الجسم المتعددة، لكل منها وظيفته، ولكن الجسم لا يكون سليمًا مُعافىً إلا إذا عَمِلت تلك الأجهزة كلها بكفاءة وانسجام مع بعضها.
وفيما يلي نتناول بالعرض المحاور السِّتة لمفهوم المؤلف لعلم المخطوط العربيّ:
1 - تاريخ المخطوط العربيّ:
قرّرَ المؤلفُ أنَّ تاريخ المخطوط العربيّ» لا يُمَثِّلُ أحد أضلاع علم المخطوط العربي فحسب، وإنَّما يُمثِّلُ الخلفيّة التي لا غنى عنها لدارسي المخطوط العربي في أي جانب من جوانبه «. ومهّدَ حديثه عن تاريخ المخطوط بقوله:» من المعلوم أن الكتب لا توجد في أمّة من الأمم إلا إذا توافرت لها عناصر ثلاثة هي: وجود كتابة وكُتَّاب، ووجود مواد صالحة لتلقِّي الكتابة وتكوين الكتب، ووجود تراثٍ يحرص الناس على تسجيله واقتنائه «. وأشار إلى توافر العنصرين الأولين لعرب الجاهليّة، أما الثالث فبيّن أنه لم يكن لهم من تراث غير الشِّعر، وأنه بطبيعته لا يستعصى على ذاكرة هذه الأمّة الحافظة، وأنّه مع بزوغ فجر الإسلام ظهر تراث عظيم يستحق الحفظ والتَّسجيل: كتاب الله المعظَّم، وسنة النبي الأكرم - صلى الله علي وسلم -، وما خرج عنهما من علوم ومعارف.
ويرى المؤلف أنّ القرن الأول الهجري يُمَثِّلُ فترة الحضانة في تاريخ المخطوط العربيّ؛ حيث شهد تدوين المصحف، وظهور نقط الإعراب، ومن بعده نقط الإعجام، ومعرفة العرب للبَرْدي، وأخيرًا ظهور بدايات حركة التأليف والتَّرجمة.
وأمّا القرن الثاني فيراه بمثابة فترة الصِّبا وبواكير الشَّّباب؛ فقد شهد هذا القرن أمورًا أثْرَت المخطوطات العربيّة أهمها: حركة تدوين الحديث النبويّ، ثم المغازي والتفسير والفقه واللغة، ونشاط حركة التَّأليف والتَّرجمة، وتطور الكتابة العربيّة بوضع علامات الإعراب التي نستخدمها إلى اليوم، ثم معرفة العرب بالورق وصناعته، والذي مَثَّلَ نقلةً مهمةً في تاريخ المخطوط العربيّ، واخيرًا صَنْعَةُ الوِرَاقِةِ وازدهارها.
¥