ثم يجيء القرنان الثالث والرابع كفترة انطلاق واسع المدى في تاريخ المخطوط العربيّ؛ سواء في حركة التّأليف والترجمة، أو في صناعة الوِرَاقَة، مما أدى إلى نشاط أسواق الكتب، وظهور المكتبات العامّة والخاصّة.
ومع القرن الخامس بدأ الوهنُ يَدُبُّ في جسد الأمّة الإسلاميّة، وأخذت أوصالها تتفكك، وشبَّت الثورات وظهرت الفتن. ولم تسلم القرون اللاحقة أيضًا من الفتن الداخلية والغزو الخارجي، ولم يكن مُستغربًا أن تأتي تلك الصراعات على أعداد هائلة من المخطوطات العربية، سواء بالحرق أو السلب أو غير ذلك.
ويُقبلُ العصر الحديث حاملًا معه أعدادًا كبيرةً من المخطوطات العربية النفيسة قد استقرَّت في مكتبات كثير من الدول الغازية التي تقاسمت المنطقة العربيّة بعد حروب عالميّة وإقليميّة، كما استقرت أعدادٌ أخرى في مكتبات الأفراد الذين شُغِفوا بالشرق وتراثه، هذا التراث الذي بنى عليه الغربُ حضارتَه الحديثة. أما في الوطن العربيّ والإسلاميّ فقد توزعت معظم مخطوطات التراث العربي بين مكتبات المساجد والمكتبات الوطنية والجامعيّة.
2 - صناعة المخطوط (الكيان المادي للمخطوط):
يُعَدُّ هذا المحور من أهم محاور علم المخطوط، وأقربها لمفهومه، وأكثرها لصوقًا بالمخطوط – من حيث كونه مخطوطًا -.
وصناعة المخطوط تعني عند المؤلف:» دراسة المخطوط بوصفه وعاءً من أوعية المعلومات، أو بعبارة أخرى: دراسة الحالة المادّيّة للمخطوط ... ويُطلق عليها البعض مصطلح (الدراسة الكوديكولوجيّة) «.
و (الكوديكولوجيا): مصطلحٌ غربيٌّ حديثٌ، يعني: علم دراسة الكتاب المخطوط أو صناعته، وهو مُركّبٌ من لفظتين: (كودكس) اللاتينيّة، وتعني الكتاب المخطوط، و (لوجوس) اليونانيّة، وتعني علم أو دراسة.
وأشار المؤلف إلى أنَّ المخطوط بوصفه كيانًا ماديًا يتكون من:» مادةٍ يُكتب عليها، ومادةٍ يُكتب بها، وأداةٍ تُستخدم في الكتابة، وخطٍ يُختار للكتابة، وأسلوبٍ معيَّنٍ للكتابة، ثم ألوانٍ مختلفةٍ من الفنَّ يُمكن أن تُضاف إليه، وأخيرًا أسلوب معين للتجليد «.
ويُقَرِّرُ المؤلفُ أنَّ» من يتعامل مع المخطوط العربي مُطالَبٌ بأنْ يتعرَّفَ على نوعيّة الورق المكتوب عليه، وبأنْ يحاولَ تحديد الفترة الزمانية التي يرجع إليها، والمكان الذي صُنع فيه، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. فمثل هذا التحديد لا يُساعد على تأريخ المخطوط في حالة عدم وجود التّاريخ فحسب، وإنَّما يُسهم أيضًا في اكتشاف أي تزوير في التواريخ «. وعن أهميّة معرفة المتخصِّص بالخطوط وأنواعها يُقرِّرُ المؤلفُ أنّ» التعامل مع المخطوط العربيّ اطلاعًا أو فهرسةً أو تحقيقًا يستلزم بالضرورة التَّعرُّف على الخطوط التي تُكتب بها المخطوطات. بل لعلنا لا نُبالغُ إذا قُلنا إنَّ معرفة الخطوط هي أول الأبواب التي يُمكنُ أنْ ندخُلَ منها على علم المخطوط العربيّ «.
3 - التَّوثيق والتَّقييم:
يُشير المؤلف بدايةً إلى أنّه ينبغي في التعامل مع المخطوط العربيّ التَّنبه إلى أنَّ» النُّسَخ المخطوطة تتفاوت فيما بينها تفاوتًا شديدًا. فهناك مُسَوَّدات ومُبيَّضات، وهناك نُسخ مُمْلاة ونُسَخ بخطوط المؤلفين، ونُسخ كتبها علماء ثقات، ونُسخ أخرى كتبها ورَّاقون يتفاوتون في درجة الدِّقة والإتقان. وهناك نُسخ موثَّقة ونُسخ مزيَّفة أو مزوَّرة، ونُسخ نادرة وأخرى لا تساوي أكثر من الورق الذي نُسخت فيه. وتلك مسألةٌ تدخُل في صميم علم المخطوط العربيّ، فالذي لا يستطيعُ ان يُفرِّقَ بين نُسخةٍ وأخرى من كتاب مُعيَّن، لا يحقُّ له أن يدَّعي العلم بالمخطوطات «.
ويرى المؤلفُ أنَّ غاية التَّوثيق هي الثِّقة في النّص المخطوط، وصحته. وأنَ أهم أدوات التَّوثيق: السَّماعات والإجازات والمُقابلات والتَّملُكات.
وأمّا التَّقييم: فهو تقدير قيمة المخطوط ونُسَخِهِ، ومعايير هذا التَّقدير، والتي عَدَ أهمَها: موضوع المخطوط، ومكانة المؤلف، وأصالة المادّة العلميّة، وتاريخ النَسْخ، واكتمال النُّسْخَة، وصحة النّص وسلامته من أخطاء النّسْخ وعدم تعرضه لأي نوع من أنواع التّزوير، وأخيرًا توثيق النُّسْخة.
¥