تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يقول ابن تيمية في هذا الباب: (لفظ الفقر والتصوف قد أدخل فيه أمور يحبها الله ورسوله فتلك يؤمر بها، وإن سميت فقرا وتصوفا؛ لأن الكتاب والسنة إذا دل على استحبابها لم يخرج ذلك بأن تُسمى باسم أخر. كما يدخل في ذلك أعمال القلوب كالتوبة والصبر والشكر والرضا والخوف والرجاء والمحبة والأخلاق المحمودة. وقد أدخل فيها أمور يركهها الله ورسوله، كما يُدخل فيه بعضهم الحلول والاتحاد، وآخرون نوعا من الرهبانية المبتدعة في الإسلام، وآخرون نوعا من مخالفات الشريعة، إلى أمور ابتدعوها، إلى أشياء أخرى، فهذه أمور ينهى عنها بأي اسم سميت ... ) " 4 ".

فالعبرة بالمسمى لا بالمسميات، نحكم على ماهية الشيء بأي اسم كان، ولا نقف على ظاهر الأمر، وسطحية التعامل مع المسميات، فإن هذا خلل في الفهم والممارسة الفكرية والعملية، وسنجد أنفسنا متناقضين حين ينشئ أحدهم ـ مثلا ـ حزب الصحابة الكرام ـ ونفرح بهذه التسمية ونحبها، ونغفل عن انحرافات كثيرة في فكر هذا الحزب أو الجماعة!، فهل يستقيم الأمر، كلا، نقبل الحسن الصحيح من أي كان، ونرفض القبيح المرفوض من أي كان، والميزان هو كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

والذي يهمنا كطلبة علم وطالبي الفهم الصحيح، ليس الأسماء، بقدر ما يهمنا المضمون، وفقا للقاعدة المعروفة (العبرة بالمسميات لا بالأسماء) أو (العبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين)، فما هي حقيقة الصوفية في أصلها الذي بدئت منه؟

• إن معرفة تاريخ وظروف ظهور التصوف أو الصوفية أمر مهم في معرفة حقيقة ماهية التصوف، فقد ظهرت عندما طغت المادية، وغلّب الجانب العقلي؛ الجانب الماديّ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات، بعد اتساع الفتوحات، وكثرة الأموال، وازدهار الحياة الاقتصادية، مما أورث غُلوًّا في الجانب المادي، مصحوبًا بغلوّ آخر في الجانب العقلي، أصبح الإيمان عبارة عن "فلسفة" و "علم كلام" "وجدل"، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه، وبأعمال الجوارح. لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها. ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدُّوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوع روحيّ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولوية لأعمال القلوب، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جُلَّ تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم. قال ابن خلدون في مقدمته: " وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية " " 5 ".

فلم يظهر هذا المصطلح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الأبرار، إنما ظهر في أواخر عهد التابعين، والسبب في ذلك أنه لم يكن هناك حاجة لظهور من يدعو إلى تلك المعاني التي حمل لوائها الصوفية فيما بعد؛ لأن أهل هذا العصر ـ عصر الصحابة ـ كانوا أهل تقوى و ورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعة حالهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في أحواه كلها، ولم يكن ثمة ما يدعو تلقينهم علما يرشدهم في أمرٍ هم قائمون به فعلا، ومثلهم في ذلك مثل العرب القُح؛ فإنه لا يحتاج إلى دراسة علوم النحو والبلاغة وغيرها من العلوم اللغوية، وإنما يحتاجها من فشا اللحن في لسانه وضعف ذوقه في التعبير.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير