والمتتبع لمنشأ العلوم الإسلامية عامة يجد أن كل علم أحاطت به ظروف، دفعت الغيورين عليه لتأصيله وتدوينه ووضع الضوابط التي تضمن عدم انحرافه، وبقائه في الأمة، ليحفظ من الضياع والاختلاط، وكل علم يصلح أن يكون مثالا واضحا لهذا الزعم الذي أقوله، وهو أمر مسلم به عند أهل العلم.
لذلك تم تأصيل علم التصوف وأطلق عليه هذا الاسم الذي لم يكون موجودا من قبل، فلم يكن موجودا من قبل، لكن عندما اتسعت رقعة الإسلام، ودخل في الإسلام أمم شتى كانت تعيش في الباطل، واختلطت تلك الأمم بالمسلمين، تأثر المسلمون بذلك وضعف عندهم هذا الجانب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأثر المسلمون بما جلبت لهم تلك الفتوحات الإسلامية من غنائم وخيرات، زُينت الحياة الدنيا لهم، فضعف الجانب الإيماني، وضعفت المعالجات القلبية لدى الناس، وأصبحت هذه المسائل سلعة غير رائجة، بل وبضاعة مجزاة عند كثير من المسلمين وقتها، والتي كانت عند أسلافهم تمثل رأس مالهم، وذروة عيشهم، عند ذلك كله أنبرى من ينادي بتلك المعاني من جديد؛ تذكيرا للناس، وتعليما للجاهل منهم، وتحذيرا من زخرف الحياة الدنيا، ضاربين من أنفسهم الأمثلة العملية في ذلك، وقدوة حسنة للتحقق بتلك المعاني الربانية.
• فهي منهج ومسلك تربوي يركز على أعمال القلوب والعبادات والقربات إلى الله تعالى عز وجل، لينجو المسلم من كل الآفات قدر الإمكان؛ فطهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والالتزام والإلزام به، والإعراض عن الخلق بقلة الخلطة، وكثرة الصمت وضبط اللسان وعفته، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن وأنواع العلوم، والحب في الله، والارتباط على الخير، وأخذ العهود في ذلك ... ألخ، ليحصل المسلم ويصل إلى مقام الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) " 6 " هذه هي المعاني التي يركز عليها التصوف النقي كمسلك تربوي.
ومما لا شك فيه ـ عند المنصفين ـ أن الصوفية قد بلغوا مرتبة عالية في علاج النفوس ودوائها، وطبها والرقي بها، بلغوا مبلغا لم يصله غيرهم من المربين، ومن طالع كلام أعلامهم المشهود لهم من أهل العلم بالتوثيق والعدالة، وأضاق نفسه مجانبة الهوى، وتجرد وأقبل على كلامهم بمكيال الكتاب والسنة، وجد دقة كلامهم على النفس وغوائرها، وانشرح صدره وإيمانه لقبول أقوالهم وطريقتهم في التربية. على أننا لا ننكر وجود من خلّط وانحرف وبالغ للحد الذي يجعله يقع في بدع كبار، إن لم نقل كفر صريح، وفق الكتاب والسنة كذلك، لكنني أهمل هؤلاء المنحرفين، لوضوح شذوذه وشذوذهم، ولأن الجانب المظلم في الصوفية بات مضيئا في عقول الكثيرين من طلاب العلم اليوم وشباب الصحوة الإسلامية، بالرغم من أن أحادية النظرة خلل في التفكير، وهذه الأحادية آفة واضحة اليوم في الكثير من الشباب المتحمس المنتسب للسلف، بل ولدى بعض الدعاة أيضا!.
لنأخذ جولة في كلام أهل التصوف الطاهر أول الأمر، ومن قادة هذا الفن:
• قال الإمام الجنيد " 7 ": (التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني) " 8 ".
• وقال: (طريقنا هذا ـ أي التصوف ـ مضبوط بالكتاب والسنة) " 9 "
• قال أحمد زروق " 10 " رحمه الله (التصوف علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول "علم التوحيد " لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك). " 11 "
• وقال: (وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه) " 12 ".
• وقال الإمام السهروردي: (الصوفي: هو الذي يكون دائم التصفية ولا يزال يصفي الأوقات من شوائب الأكدار بتصفية القلب عن شوائب النفس، ويعينه على كل هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقى من الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها لربه ... وهذه القوامية لله على النفس هي التحقق بالتصوف) " 13 ".
• قال ابو الحسن الشاذلي: (التصوف: تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية) " 14 ".
¥