• قال سهل بن عبد الله التستري: (الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر) " 15 ".
من هذه الأقوال يتضح لنا بأن التصوف في أصله صحيح مقبول موافق للكتاب والسنة، ولذلك قال ابن تيمية: (وَأَمَّا أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ وَالْمَشَايِخُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْقُدَمَاءِ:
مِثْلُ الجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِثْلُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَأَمْثَالِهِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ لُزُومًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَوْصِيَةً بِاتِّبَاعِ ذَلِكَ) " 16 "
و من خلال ما ذكر آنفا نخلص إلى عدة نقاط:
• العبرة بالمسميات لا بالأسماء.
• يجب أن نزن الأمور بالعدل والإنصاف.
• لا نغفل عن الوقت التاريخي لظهور التصوف والظروف المحيطة بذلك.
• حقيقة التصوف مسلك تربوي عبادي يعنى بتربية النفس.
• لا نبخسهم دورهم وحقهم وعلمهم.
• كلام أئمة التصوف الأولين كله موافق لشرع الله، وهم أئمة في دين الله.
• وهؤلاء الأئمة أول الناس رفضا ومحاربة لكل مخالفة شرعية.
ما بعد هذه المقدمات المهمة:
1. توسع التصوف وراج أمره، ودخل فيه الناس، بحسب أحوالهم وأهوائهم وعلمهم، فكان منهم الغث والسمين، الصالح وغير ذلك، وبدأ الانحراف يدب فيه، بدرجات مختلفة، فمع مرور الزمن حدث التساهل، وحدث معه الانحراف؛ سواء على مستوى الاعتقاد، أو مستوى السلوك، وهذا الانحراف له أسبابه الكثيرة، منها:
• عدم تحلي بعض المشايخ في الطرق الصوفية بالعلم الشرعي، الذي يعصم السير من الزلل والانحراف والابتداع في الدين، خلافا لسابقيهم من أعلام التصوف الذين يشهد لعم بالعلم والتقوى معا.
• اعتقاد بعض المتصوفة في مشايخهم اعتقادات منحرفة عن نظرة الإسلام للرجال، وصل في كثير من أحيانه إلى حد التقديس والقول بالعصمة، وأن الشيخ له علاقة خاصة بربه، وأشياء أخرى من الخرافات كأن يقال بأن المدد يأتيهم من السماء، واتسعت هذه الدائرة لينشأ عنها التفاخر بين الأتباع كل بشيخه وما يحدث له من خوارق العادات أو الكرامات.
• التباس الرؤية عند بعضهم في النظرة إلى كرامات المشايخ، وعدم يميزهم بين الكرامة وتلبيسات الشيطان، وهذا ما دفع ابن تيمية لكتابة كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) فقد كان عصره يعج بأمثال هؤلاء المنحرفين، فكان جوابا وافيا لهم وعليهم.
• دخول أصاحب الأهواء في التصوف و وصولهم إلى مراكز التأثير في الطرق الصوفية، والانحراف بها، وفقا لأهوائهم وتحقيقا لأغراضهم ومكاسبهم الذاتية.
• تأثر بعض الطرق الصوفية بالداخلين الجدد في الإسلام من الأمم الأخرى، مثل الفرس والهند والروم، والذين لم يخلص انتسابهم لدين الله، ودخلوا هذه الطرق بما عندهم من خرافات وكفريات وأذاعوها بين الصفوف فضلوا وأضلوا.
• ومنها، أن هذا الطريق ـ طريق الاهتمام بالجانب الروحي ـ يضفي شعورا في النفس بالصفاء والطمأنينة، لكن هذا الشعور إن لم يكن صاحبه محاطا بتوفيق من الله أولا وأخرا، ويستشعر دائما أنه بغير ذلك لن يستقيم أمره، ويكون على علم وبينة بضوابط الشرع الحكيم التي تنير وتؤصل له طريقه هذا، فإن صاحبه أكثر من غيره عرضة لتلبيسات الشيطان، لأنه يظنها حالة من حالات الكرامة والرضا من الله، بينما هي ـ إن تعرت من الشرع ـ مدخل ومزلق من مزالق الشيطان، لذا كتب ابن الجوزي " 597 هـ " كلاما طويلا في تلبيس إبليس عن أولئك المتصوفة، غير أنه بالغ ولم يكون موضوعيا، وكلام ابن تيمية " 728 هـ " أجود منه.
2. ساهم المستشرقون في تشويه صورة التصوف، زاعمين أن التصوف فكر عالمي، فمنه التصوف البوذي ومنه الهندي والنصراني، الأمر الذي يجعل النفرة كبيرة لدى بعض المنتسبين للسلف من مجرد اسم التصوف والصوفية، بل أمست التسمية عند بعض الجهال إلى نوع من المسبة والتعيير.
3. تنوعت الطرق الصوفية وتعددت الاجتهادات، واختلط الحابل بالنابل كما يقولون، وأمسى التفريق يصعب على طلاب العلم في بدء سيرهم العلمي، وبات التعامل معهم على ثلاثة أحوال:
الأول: الاعتقاد أنهم على الصواب وأنهم على وراثة النبوة، وأنهم أفضل الخلق.
¥