الثاني: الاعتقاد أنهم على ضلالة وانحراف، يجب محاربتهم وفضح عوراهم ونبذ كل شي منهم، وفي بعض الأحيان إخراج كل التصوف عن أهل السنة والجماعة.
الثالث: الاعتدال في الحكم، ومجانبة التعميم، وأخذ أحسن ما عندهم، ورد ما فيهم من مخالفات.
والحق فيهم هو المذهب الثالث، قال ابن تيمية: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسن اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه). " 17 "
وقال ابن القيم في مدارج السالكين عما يقع من شطحات وانحرافات لدى بعض المتصوفة، قال رحمه الله: (هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقا، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط: ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، واجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضًا معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردوا ما يرد). وقال: (البصير الصادق يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها) " 18 "
فقد عد الإمام ابن القيم كلا طرفي النظر للمتصوفة من المعتدين المفرطين، وأخذ المنهج الوسط، وكان منهجه الوسطي هذا وافيا في كتابه مدارج السالكين، الذي هو شرح لكتاب " منازل السائرين " لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي المتوفى سنة 481 هـ، حتى أن الإمام ابن القيم رحمه الله أمسى في الكتاب مرددا لعبارات هي معروفة عن الصوفية، أمسى يكررها لأن معناها صحيح غير مخالف للشرع، كمثل لفظ المريد والسير إلى الله ونحوها، ويجد ذلك واضحا من درس الكتاب.
4. لقد كان للفكر الصوفي المنحرف أثرا سيئا في الأمة في جوانب حايتها، كما كان له الأثر الطيب كما ذكرنا، ومن أبرز جوانب الانحراف التي أثرت في الأمة في الفكر الصوفي:
• مقالة بعضهم في القضاء والقدر، وأن الإنسان مسير في قدر الله، وعليه أن يستسلم ويرضى بما يجري من أمور، ولا يتحرك مع هذا القدر بقدر أخر، هو يسعى له بمشيئة الله تعالى.
• ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي نقطة متولدة من النقطة الأولى، وأصاب التبلد الأمة، وخارت النفوس، وترك الجهاد، وساد الاهتمام بالذات على حساب مصالح الأمة، ودفع الصائل عنها، حتى أمست الشعوب اليوم راضية بكل ما يصيبها من جلاديها، قانعة بقضاء الله وقدره!!
• الاعتماد على الخرافة والقصص والكرامات، بدلا من الاعتماد على الانجاز والتحرك والعمل المثمر وفق شرع الله، وسادت عادات كثيرة في الشعوب جراء هذا التخلف.
وهذه الأمور الثلاث قد تأثرت بها الشعوب من الفكر الصوفي ـ المنحرف ـ ولم تكن موجودة في صفاء التصوف، ولا لدى قادته الكبار.
فالموضوعية تقتضي منا أن نتعامل بالعدل والإنصاف، وأن نأخذ الصواب والحق منهم، ونرد مالهم من شطحات وانحرافات، لا أن نبالغ ونرفض كل شيء، وخاصة في هذا الوقت؛ حيث يروج بأن التصوف كله انحراف، وكله منبوذ، وكله يجب محاربته، وهذا غلو واعتداء وبغي بغير حق ولا علم، وليس هو منهج السلف رضوان الله عليهم، إنما منهج جديد يدعي الانتساب للسلف!
¥