تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن لفكرة التصوف في الجانب التربوي أثرا لا ينكره إلا قليل عليم أو مكابر، ولم يزل علماء الأمة ينتسبون إلى التصوف بكل أريحية، ويجدون في ذلك غضاضة أبدا، لأن التصوف كما قلت مسلك تربوي في سلوك العبد مع الله تعالى، وكان التصوف في أول أمره على الجادة، ثم اختلط، ونتعامل معه بالعدل والإنصاف، لا بالتعدي والإجحاف، مستفيدين من تراثهم التربوي الكبير، غير مبررين لانحرافات حدثت لهم، ولا نتأولها قطعا لهذه الشطحات.

وكمثال على هذا التعامل المنصف، أورد كلام الشيخ أبي الحسن الندوي في بيان أمر كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي رحمه الله، وهو من علماء التصوف، قال الندوي رحمه الله: (وعلى ما تعقب على الغزالي في الإحياء من إيراد أحاديث ضعيفة، بل موضوعة في كثير من الأحيان، وأشياء من كلام الصوفية الممعنة في الغلو وهضم النفس وترك المباحات، وقد لا تتفق مع أصول الدين، ومع ما ورد فيه من مواد كلام الفلاسفة، إلى غير ذلك من مآخذ تعقبها العلامة الحافظ ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، مع اعترافهما بفضل الكتاب، فإن كتاب الإحياء في مقدمة الكتب الإسلامية التي انتفع بها خلائق لا تحصى في كل عصر وجيل، وأثرت في النفوس تأثيرًا لا يعرف إلا عن كتب معدودة، ولا يزال الكتاب الذي يكثر قراؤه والمعجبون به والمتأثرون به في أكثر البلاد، ولا يزال ثروة زاخرة في الدين، ومصدرًا قويًا من مصادر الإصلاح والتربية) " 19 ".

وقال الإمام الذهبي عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة، شيخ الإسلام، علم الأولياء) " 20 " كان الشيخ الجيلاني (يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للخلفاء والسلاطين والقضاة والخاصة والعامة، يصدعهم بذلك على رؤوس الأشهاد، رؤوس المنابر وفي المحافل، ينكر على من يولي الظلمة، ولا تأخذه في الله لومة لائم) " 21 ". ولنتأمل حال الشيخ من التصوف والدعوة والجهاد، ولنرى اليوم الطريقة الجيلانية وكيف سيرها ومدى التزامها بشرع الله!.

ومن الحركات الصوفية التي كانت على الجادة في منهجها وفي رجالاتها " الحركة السنوسية " في ليبيا، التي كان لها الدور الكبير في نشر الإسلام في أسقاع أفريقا، وفي محاربة الاستعمار والتصدي له، ضاربة بذلك المثل العالي للتصوف العملي الصافي من كل كدر، المجاهد في سبيل الله تعالى، ومن أبرز أعلام الحركة الإمام السنوسي والإمام أحمد الشريف الذي رشح للخلافة، ومن أبرز رجالاتها الشيخ عمر المختار أسد الصحراء وشيخ المجاهدين، الذي تربى منذ صغره في الحركة السنوسية، وهاجر لأفريقا داعية فيها للإسلام، ونشره بين أهلها، وكان حافظا للقرآن معلما له، ثم أمسى قائد الجهاد في ليبيا ضد الطليان، ضاربا بذلك المثل العالي لكل رجالات الدنيا في حسن السلوك والعمل والعلم والدعوة، برغم كبر سنه رحمه الله.

ذكر الدكتور الحبيب علي الصلابي قصة لطيفة عن عمر المختار فقال حفظه الله: (استأذن ـ أي عمر المختار ـ في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بشر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان، وعندما دخل على المهدي تناول مصحفا كان بجانبه وناوله للمختار وقال: هل لك شيء آخر تريده، فقلت يا سيدي إن الكثيرين من الإخوان يقرءون أورادا معينة من الأدعية والتضرعات أجزتموهم قراءتها وأنا لا اقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات فأطلب منكم إجازتي بما ترون، فأجابني بقوله {يا عمر وردك القرآن} فقبلت يده وخرجت أحمل الهدية العظيمة " المصحف " ولم أزل بفضل الله أحتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم وصرت مداوما على القراءة فيه يوميا لأختم السلكة كل أسبوع.) " 22 "

فهذه الأمثلة من التوازن في التعامل قصدت منها، فقه التوازن مع تراث الصوفية ذكرت مثالا فيه كتاب الإحياء للإمام الغزالي، وفقه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الإمام الجيلاني، وفقه الدعوة والجهاد من خلال عمر المختار، وكلهم من الصوفية.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير