يقول أمير المؤمنين ظلمتني بأخذك ديناري ولا أخذ درهمِ
ولا بسط كفٍ لامرئ غيرِ مجرمِ ولا السفك منه ظالما ملء محجمِ
فالحجم والحجامة اسمان لفعلٍ واحدٍ، هو مص الدم من البدن بآلة خاصة تعرف بالمحجم أو المحجمة، وهى قارورة من زجاج أو نحوه ذات فوهتين؛ توضع إحداهما وهى الواسعة على موضع الحجامة من البدن، ويلتقم الحجام الأخرى وهى الضيقة بفمه ويشفط الهواء بقوة النفس، بعد عمل خدوش بسيطة على سطح الجلد بمشرط أو شفرة، فيتجمعُ الدمُ فى المحجمِ.
فالحجامة إذن، هى تفريغ للدم المتجمع فى نواحى الجلد من مسامه الدقيقة أو الخدوش التى أحدثها مشرط الحجام. فإن قيل: وما فى هذا من التداوى أو حفظ الصحة؟، فنقول: قد روى الإمام أحمد عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا حَجَّامًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْجُمَهُ، فَأَخْرَجَ مَحَاجِمَ لَهُ مِنْ قُرُونٍ فَأَلْزَمَهُ إِيَّاهُ، فَشَرَطَهُ بِطَرَفِ شَفْرَةٍ، فَصَبَّ الدَّمَ فِي إِنَاءٍ عِنْدَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ عَلامَ تُمَكِّنُ هَذَا مِنْ جِلْدِكَ يَقْطَعُهُ؟، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((هَذَا الْحَجْمُ))، قَالَ: وَمَا الْحَجْمُ؟، قَالَ: ((هُوَ مِنْ خَيْرِ مَا تَدَاوَى بِهِ النَّاسُ)) (1).
فللحجامة فى ترويق الدم وتصفيته من الشوائب والأخلاط والنفايات، ما للنار فى الحديد من تصفية جوهره، ونفى خبثه، فهى أشبه الأشياء بالكير الذى ينفى خبث الحديد. وهى أنفع العلاجات للقلب وجهازه الدورى، بما تخلصه من المواد الرديئة والنفايات اللزجة التى ربما أحدثت سدداً لمجراه، وبما تستحثه من تجديدٍ وتعويض لكمياته المستنزفة، وهى مع هذا كله أشد أمناً من الفصد، وخاصة للعروق التى لا يمكن فصدها بحالٍ، ولفصد كلٍّ منها فائدة خاصة.
وبسط هذه المعانى سيرد ذكرها فى باب الحجامة فى الطب الحديث.
ومع تقدم وسائل المعرفة بمكونات الدم، ودورته فى البدن، وحمله للغذاء ونفاياته، وتأثيره الحيوى فى حفظ طبيعة البدن ومزاجه، اختلفت نظرتنا عن أسلافنا الذين ربما عبروا عن فائدتها تعبيراً غامضاً يخفى تصور دلالته على الكثيرين، ومن أعجب ذلك ما نقله المناوى فى ((فيض القدير)) (3/ 403) عن التوربشتى حيث قال: ((ووجه منفعة الحجامة الأبدان: أن الدم مركب من القوى النفسانية الحائلة بين العبد وبين الترقي إلى ملكوت السموات، والوصول إلى الكشوف الروحانية، وبغلبته يزداد جماح النفس وصلابتها، فإذا نزف الدم أورثها ذلك خضوعاً وخموداً وليناً ورقةً، وبذلك تنقطع الأدخنة الناشئة من النفس الأمارة، وتنحسم مادتها فتزداد البصيرة نورا إلى نورها)). وهذا الذى قاله التوربشتى أشبه بالألغاز والأحاجى منه بالمعرفة الواعية عن الدم: ذلك الكائن الحيوى الفعال الذى يحفظ على البدن حياته وحيويته وبقاءه!!.
ولعلك إذا تأملت كلام أهل المعرفة بالطب الإنسانى، والكيمياء الحيوية، وأنظمة إيصال الأدوية إلى أجهزة الجسم الإنسانى؛ لوجدت بوناً شاسعاً بينه وبين ما ذكره التوربشتى. ولنكتفى من ذلك، بما ذكره صاحب كتاب ((معجرة القرن العشرين: الدواء العجيب)) عن منفعة الحجامة: ((إن زيادة الدم الفاسد والهرم فى جسم الرجل البالغ، الذى تخطى سن العشرين، إثر توقف النمو، ينعكس سلباً بتمركزه فى أهدأ منطقة فى الجسم، وهى الظهر، فإذا ما ازدادت الكريات الهرمة ــــــــ
(1) سيأتى تحقيقه برقم (10).
سببت عرقلة عامة لسريان الدم فى الجسم، وأدى ذلك إلى شبه شللٍ بعمل الكريات الفتية، وبالتالى يصبح الجسم بضعفه عرضةً، وفريسةً سهلة للأمراض.
فإذا احتجم المرء أعاد الدم إلى نصابه، وأزال الفاسد منه، وزال الضغط عن الجسم، فاندفع الدم النقى العامل من الكريات الحمراء الفتية، ليغذى الخلايا والأعضاء كلها، ويزيل عنها الرواسب الضارة والفضلات وغاز الفحم والبولينا، وغيرها، فينشط الجسم، وتزول الأمراض، ويرفل المرء بالصحة والعافية)) اهـ.
¥