هذا الحديث أصل فى أمثل أوقات الحجامة الاعتيادية، وهو الربع الثالث من أرباع الشهر القمرى، وأفضله وتر أيامه وهن: سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وأفضلية الوتر لأن الله تعالى وتر يحب الوتر، والاختيار الأمثل لعمل الحجامة فيها هو فعل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذى رواه أنس بن مالك قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ فِي الأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ.
قال العلامة ابن القيم ((الطب النبوى)) (ص44): ((وأفضل أوقاتها فى الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم فى أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ، وفى أخره يكون قد سكن، وأما فى وسطه وبعيده، فيكون فى نهاية التزيد)) اهـ.
وأما اختيار الفصل الأمثل من فصول السنة للحجامة، فمرجعه إلى اعتدال الجو ودفئه، وأوفق ذلك وأحسنه: فصل الربيع، حيث يكثر الدم، وتقوى القوى الكامنة والحيوانية، وتظهر آثار الشوائب والأخلاط المتولدة ببرودة الشتاء، والمترسبة فى أماكن الركود والكمون من البدن، وتكثر مشاكل تحليل الدم، فقد كان بالأمس القريب وثيق عهدٍ بفصل الشتاء البارد، ومن كثرت أخلاطه فى الشتاء لقلة حركته، وكثرة نهمته، كان أكثر تعرضاً للأمراض حيث تتحرك الأخلاط مع ميوعة الدم، وتحركه فى الربيع.
فانتهزْ أيها الراغب فى العلاج والوقاية إقبالَ الربيع لحجامتك، كما تترقبه لنشاطك وحيويتك، وجدِّد بذلك دمك ومناعتك، كما جددت بإعتداله مزاجك وطبيعتك. فقد علمت أن الربيع إذا أقبل هاج الحرُ من تحت الأرض، وذهب البرد من الجو، وارتوت بذور الأرض وعروق الأشجار وانتعشت، وانفطرت الأرض واهتزت وربت، وتوردت الأشجار واخضَّرت، وتفتَّحت الأزهار والرياحين وازدهت، وهاجت ريح كل شيء فطاب الهواء، واستنشق الناس نسائم الورود ـــــــ
(20) حسن. أخرجه أبو داود (3861)، والحاكم (4/ 233)، والبيهقى ((الكبرى)) (9/ 340) جميعاً من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
وقال أبو عبد الله الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)).
قلت: هو كما قال، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحى صدوق، وثقه ابن معين. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازى: صالح. ولكنه له أوهام فى روايته خاصة عن عبيد الله بن عمر.
والرياحين، فصارت شفاءً لأجسامهم، وصلاحاً لطبائعهم، ومرمَّةً لأعضائهم، وذهبت عنهم زهومة الشتاء، وأدخنة الأجواء. ألم يأتك قول القائل:
لا تصحبْ الدنيا كئيباً مُكمدا من ذا رأيتَ من البريَّة خالدا
قم فاغتنمْ طيبَ الربيع وحسنَه فلقد حباك به الغمامُ وأسعدا
وردٌ كأن أصولَه وفروعَه سُقيتْ دماً حتى ارتوى فتوردا
والماءُ يجري في الرياض كأنه سيفٌ صقيلٌ من قراب جُردا
فاشربْ عليه فإنَّه وقتٌ إذا ولَّى تفاوتَ أن يُنال فيُوجدا
ذكر العلامة القلقشندى فى ((صبح الأعشى فى صناعة الإنشا)) فى المهيع الثالث في ذكر الفصول الأربعة وأزمنتها وطبائعها وما حصة كل فصل منها من البروج والمنازل، فقال: ((الأول: فصل الربيع، وابتداؤه عند حلول الشمس برأس الحمل، ومدته أحد وتسعون يوما، وربع يوم، ونصف ثمن يوم، وأوله حلول الشمس رأس الحمل، وآخره عند قطعها برج الجوزاء، وله من الكواكب: القمر والزهرة، ومن المنازل: الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع، ومن الساعات: الأولى والثانية والثالثة، ومن الرياح: الجنوب)).
ثم قال: ((وطبعه حار رطب، وله من السن الطفولية والحداثة، ومن الأخلاط الدم، ومن القوى الهاضمة، وفيه تتحرك الطبائع، وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيطلع النبات وتزهر الأشجار وتورق، ويهيج الحيوان للسفاد، وتذوب الثلوج، وتنبع العيون، وتسيل الأودية، وأخذت الأرض زخرفها وازينت، فتصير كأنها عروس تبدت لخطابها وفي مصبغات ثيابها، ويقال: إذا نزلت الشمس رأس الحمل تصرم الشتاء وتنفس الربيع، واختالت الأرض في وشيها البديع، وتبرجت للنظارة، في معرض الحسن والنظارة.
¥